أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: عبقريات جمع قلة لـ (عبقرية)؛ فهي جمع للوصف، وعباقرة جمع كثرة للموصوف؛ وهو العبقري؛ ولا يوجد جمع كثرة للوصف؛ لأنَّ الموصوفين كُثُرٌ؛ ولهذا جاءت الكثرة في الموصوفين؛ والعكس بالعكس، فلا قلة في الموصوفين.. ولقد زعم اللغويون أن (عبقر) موضع في البادية كثير الجن التي تأوي إليه؛ وبهذا أصبح عبقر الأسطوري حقيقة لغوية لكل وصف موصوفه يثير العجب: إما لقوته، وإما لجودته؛ ومن الجودة الحذق.. وأهل الإسلام والربانيون، والصالحون المتقون من أهل الأديان الربانية معصومون من الجنون؛ لأنهم محترزون بما شرعه الله لهم من العبادة والطاعة التي يلجؤون بها إلى ربهم، وإنما يوصف أذكياؤهم بالعبقرية لظهور مواهبهم في العلم والاستنباط والابتكار في أمور الدنيا والفروسية؛ ولا يضيرهم هذا الوصف الذي مآله إلى مأوى الجن عبقر؛ لأن هذا الموصوف أصبح حقيقة لغوية دالة على الذكاء، ورهافة الحس، وسرعة البديهة.. إلى ما أسلفته آنفًا من القوة والجودة.. إلخ؛ وإنما وُجد الجنون الذي هو من سيطرة الشياطين على الإنس عند أذكياء ينسبون أنفسهم إلى الإسلام ادعاء كأهل الحلول والاتحاد، وإلى مسلمين حقًا إلا أنهم من العوام الذين لم يحافظوا على وردهم؛ وهم يتلقونه مما يسمعونه من علمائهم الربانييين في المساجد والمنتديات؛ وقد أمضى الله فيهم أنه إذا أخذ ما وهب سقط ما وجب إذا لم يكن جنونهم بأسباب محرمة ارتكبوها كالعكوف على شرب الخمور والمخدرات.
قال أبو عبدالرحمن: وإنما غازل جنون العبقرية نماذج من المنتسبين إلى الأديان الربانية؛ لأنهم غير مجتهدين ولا محققين لما طرأ عليها من تبديل وتأويل وإسقاط وإضافة، وقد أفضت في الحديث عنهم في مقالات لي مطولة تشكَّل سفرًا كبيرًا، وأذكر الآن نموذجًا للمؤانسة والعبرة معًا الروائي المليحة آثاره (تشارلز ديكنز) [1812-1870 ميلاديًا]؛ فقد كان يغادر منزله في ظلمة الليل تائهًا في شوارع لندن، ويقطع مشيًا على الأقدام ما ينيف على خمسة عشر ميلاً وليس له في هذا العناء غاية ولا مأرب، ويدخل في بيوت أصدقائه من النوافد لابسًا زي البحارة.. وأمتع منه جنونًا الروائي (إميل زولا) [1840-1902 ميلاديًا]؛ فقد أخبر عن نفسه أنه في خلوته ليلاً يرى أضواء غريبة تبرق وتنطفئ أكثر من مرة، ويدوي في أذنيه أصوات وإن كانت هامسة، ومن شذوذه ووساوسه أن هوايته إحصاء مصابيح الغاز على جوانب الطرق، وعلى الأبواب كلَّما عَنَّ له ذلك.. وكان إذا دخل بيتًا وقدم رجله اليمنى ناسيًا خرج مسرعًا، ثم عاد وقدم اليسرى؛ لأنه يتشاءم من اليمنى؛ ويفعل ذلك مرارًا؛ وإذا أراد قفل باب بيته: فتحه وغلقه عددًا من المرات.. وفي أمثال العرب: (الجنون فنون)؛ ومن أعجب العجب أن تكون رواياتهم مجنَّحة جميلة ذات إبداع.. إنها عبقرية وحسب، والله المستعان.
** الخيال الفني هو تلخيص العقل من الواقع:
قال أبو عبدالرحمن: من المواهب البشرية من لا ينازعون في سعة علومهم، ورهافة إحساسهم، ودقة تمييزهم، وتحليق عقولهم، وتدفق إبداعهم بما استنبطوه من الواقع.. إلا أنهم (وذلك برهان على أن الكمال ليس من طبيعة البشر): ثقلت أرواحهم، وتخثرت عقولهم، وتلاشت شفافيتهم من أمثال (ديكارت)، و(هوبز)، و(جونسون)؛ وذلك حينما زعموا أن الخيال الفني مملكة فوضوية، وعدُّوه مرضًا نفسيًا يصل إلى حد الجنون من جراء الاسترسال مع الأحلام والأوهام.. يراجع على سبيل المثال كتاب (كولردج) تأليف أحمد مصطفى بدوي ص48-49 المطبوع في القاهرة عام 1958 ميلاديًا؛ ونتيجة لذلك التخثر: حصر الكلاسيكيون الخيال الفني في التعبير اللغوي المجازي، والصور الجزئية الحسية؛ وأضربُ المثال بـ (رحيق القصيدة)؛ فالرحيق شراب لذيذ، والقصيدة لا تُشرب، ولكن لذة العقل بجمالها الفني يساوي اللذة بشراب الرحيق؛ فذلك هو الصورة الجزئية؛ وذلك يسميه النقاد تراسل الحواس؛ كوصف المرئي بالمسموع؛ وقد ضربت المثال في إحدى مقالاتي برؤية جمال قوس قزح بسماع صاعقة أزعجت أذن (بودلير) في قصيدة لي حَوَّلتُ ترجمتها النثرية إلى شعر موزون بشعر التفعيلة.
قال أبو عبدالرحمن: وعارضهم أنداد لهم ألطف شفافيةً منهم في هذه المسألة من أمثال (فِشْتَه) -؛ وهو فيلسوف أكثر منه أديبًا -؛ فوصف الخيال بأنه منتج؛ واكتفاؤه بهذه المفردة يعني إنتاج الحقائق؛ وعند (وليم بليك): أنَّ الخيال رؤية مقدسة؛ واكتفاؤه بالوصف بالرؤية، وحكمه بالتقديس: يعني إنتاج الحقائق الواقعية؛ والتقديس يعني التورع من الشك في الحقائق؛ ومثله الفيلسوف (شيْلَنْغ)، و(كيتْس)؛ فالخيال الفني عندهما قوة قادرة على إدراك الحقائق، وأرْبى عليهما الأديب الشاعر (شِلِلِي)؛ فحكم بأن الخيال مصدر المعرفة؛ فإنه.. قال: (العقل يحترم الفروق بين الأشياء بينما يحترم الخيال مواضع الشَّبَه فيها).. يراجع كتاب (فلسفة الجمال في الفكر المعاصر) ص77؛ ومن مصادره مقالة لـ (شِلِلِي) بعنوان (دفاع عن الشعر).
قال أبو عبدالرحمن: باستقرائي مادة الخيال الفني رأيت أن المادة تدل على صفة تنتج تصورًا، وظنًا، وتَحركًا؛ ومعنى ذلك التحرك: أنه حضور صورة، وغياب أخرى؛ وهكذا؛ فكل هذه المتغيرات هي المعنى اللغوي الوضعي الأولي لمادة (الخيال الفني)، التي نقلها اللغويون إلى حقائق اللغة من كل تلك الحيثيات من إحساس الأدباء المجنَّحين، وإلى لقاء إن شاء الله.؛ وإلى لقاء والله المستعان.
** **
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -