ميسون أبو بكر
أردت أن أكتب لك علّ هذا الحبر يبقى تذكاراً وهذه الكلمات ترثها عني كما ورثت أشياء أبي ووصاياه واعتبرتها خارطة طريق في بحر الحياة اللجيّ.
أريدك يا بني أن تكون عادلاً في حكمك على ما يدور حولك، وألا تتبنى آراء هي هلاكك فتقودك كالإمعة الذي لا حول له ولا قوة.
قدرنا أننا نعيش في الغرب الذي زُيّن لنا ولغيرنا أنه العالم النموذجي الديمقراطي الذي يعتنق حقوق الإنسان كما منهج حياة، ورغم أنني احترمت في الغرب منحي حرية التعبير، وحريتي في الانضمام إلى المظاهرات حين أردت أن أحتج مع غيري على وضعٍ أو قانونٍ ما، كما كفالتي المادية حين لا أستطيع العمل وأمور صحية أخرى إلا أنني مع الوقت أدركت أن كل ذلك كان مثل (الفاترينا) يبرق ويلمع ويغري المارّة لأنهم وضعوا في الواجهة أفضل ما عندهم بينما الداخل لا يشبه المعروض.
يا ولدي أتذكر حين بلغت الرابعة من عمرك ذهبنا بك إلى بلادنا الحارة الفقيرة مقارنة بالوطن البديل في الغرب، وقررنا أن تتربى هناك على عاداتنا العربية وأخلاقنا التي هي من صميم ديننا، فالمعيشة في الوطن البديل جعلتنا غير قادرين على تربيتك التربية العربية السليمة الأصيلة لأن هناك محظورات كثيرة تحول دون ذلك، وإننا إن كنا حازمين معك أو منعناك مما هو مضر لك قد نحرم منك ويذهبون بك لعائلة بديلة، ليس لأجل مصلحتك بل هي وسيلة لتدجين البشر كي يكونوا وفق نهجهم الذي شرعوه وكي تكون مخلصاً لهم فرحاً بالحرية المزعومة.
وجاءت أحداث غزة لتعرّيهم وتكسر التمثال الذي تقولبوا فيه، غزة كانت الاختبار الصعب الذي أزال اللثام عن وجوههم القبيحة، والحقوق التي تشدقوا بها طويلاً، فنحن اليوم ممنوعون من التظاهر والتعبير والحديث عن رأينا تجاه ما يحدث والتضامن مع الأطفال القتلى أو المبتورة أعضاؤهم والذين تيتموا ووقعت فوق رؤوسهم بيوتٌ كانت تضمهم بحنان ودفء مع أسرهم رغم فقر الإمكانيات والحصار الرهيب على مدنهم ولقمة عيشهم.
كنت عوقبت لو يوماً اعترضت على وجود قطة أو (تبرز) كلب أكرمك الله في مطعم أو مكان عام، لكن ليس للدم العربي اعتبار لديهم ولا للإنسان المقهور حقوق لذلك نحن ممنوعون من الانحياز للمظلوم المقهور ولجثث الموتى وقصص الأطفال التي يهتز لها القلب والروح.
كشّر الغرب عن أنيابه فلا إعلامه صادق ولا الحقوق التي تشدق بها حقيقية ولا أنظمته عادلة أو إنسانية.
حاولت كثيراً أن أقنعك بأنك متساوٍ مع كل البشر في هذا البلد واليوم أعود لأصحح مزاعمي ولأقول لك إنك ستكون الحكم في ما يواجهك وستحكّم عقلك ورأيك في كل ما ستسمع وترى.
اليوم وأنا أخاف عليك أن تعلن انحيازك للحق في بيئة ظالمة ترى الظالم مظلوماً وتتغاضى عن الشعب المنكوب الذي استحل دمه وأرضه، وأنك ستُعامل بعنصرية مقيتة وسيشار إليك إنك إرهابي لأنك تنحاز عاطفياً للشعب الفلسطيني إلا أنني أعلم أن تربيتي لك ستقودك للحق وإن وقر في قلبك ولم تجهر به.
تلك هي فلسطين التي سلمها وعد بلفور وطناً بديلاً لليهود الذين عُذبوا وارتكبت بحقهم المجازر والتمييز العنصري من الغرب الذي أراد اليوم الاعتذار لهم بمنحهم الأعذار فيما صنعوه بالشعب الفلسطيني، وفي ظن آخر أراد الخلاص منهم بإبقائهم في فلسطين، وإنك لتعلم أنهم حتى اللحظة لهم مجتمعاتهم الخاصة بهم وطقوسهم المختلفة وتاريخهم المرير الذي فرض عليهم العزلة عن الآخر والخوف منه في الكثير من المجتمعات.
التشدق بحقوق الإنسان وهم، وفلسطين حقيقة باقية والفلسطينيون أصحاب الحق الذي لن يضيع مادام أهله بهذه البطولة وهذا الوفاء.