العقيد م. محمد بن فراج الشهري
أفرزت التكنولوجيا الحديثة لنا أمور لم تكن مألوفة من السابق معظمها خطير للغاية، فعلى سبيل المثال لم تعد الدول تشن الحروب التقليدية وتحرك الجيوش، والآليات، والمعدات الحربية... حيث استبدلت تلك الأساليب بأساليب وطرق جديدة، ومتنوعة تؤدي الغرض وتوصل الرسائل للشعوب وتصل في الغالب إلى تحقيق أهدافها... فلقد أدركت بعض الدول الكبرى هذه الصناعة مبكراً وعملت على صياغتها وفق مصالحها وحماية أمنها القومي، كما استفادت بعض الجهات والمنظمات الإرهابية من هذه الصناعة الجديدة «صناعة الأفكار» وسخرتها لبث أفكارها المتطرفة بين المجتمعات للتأثير على الشباب، وخلق جيل يتماشى مع هذه الأفكار ويتبناها.
وقبل سنوات عدة صرَّح أحد وزراء الدفاع الأمريكيين، أن حرب الإرهاب المقبلة ستكون «حرباً فكرية» أي أنها لن تعتمد على القوة العسكرية فقط، ويجمع العديد من المختصين بأن محاربة الفكر لابد أن تكون بفكر معتاد يتم من خلال العديد من الجهات، والمؤسسات العلمية، والثقافية، والإعلامية، لأن المعرفة هي أساس الفكر الذي يستصحب حركة التغيير في الأداء وتجددها الفاعل باستمرار، بناءً على مقومات القدرة الذكية التي تتجسد إيجابيًا في اتخاذ القرارات الصحيحة في اللحظة الحاسمة.
والإعلام هو أحد أهم هذه المرتكزات في الحرب الفكرية، ولاسيما الجديد منه بوسائله ومنصاته المختلفة عبر تويتر، وفيسبوك، والواتساب وغيرها من البرامج والتطبيقات الشائعة والمستخدمة بكثرة لدى أفراد المجتمع ساحة وميداناً للحرب الفكرية لتمرير رسائل وأفكار يراد من خلالها خلق صورة ذهنية عن قضية أو موضوع أو فكرة معينة، كما يروج الإعلام الصهيوني والغربي يقنع العالم بأن الحرب على غزّة هي للدفاع عن النفس، واقتنع بها بعض الغرب لما يلعبه الإعلام الصهيوني في أمريكا وخارج أمريكا من حرب فكرية رصد لها المليارات.. لذلك لم يعد تجاهل منصات الإعلام علاجاً ناجحاً لتفادي آثارها وتأثيرها على المجتمع، بل لابد من للجهات سواء كانت حكومات أو مؤسسات رسمية أو شركات من التواجد ومزاحمة منصات «الحرب الفكرية» التي تسعى لإحداث شرخ في المجتمع من خلال بث وتسريب الشائعات، والمعلومات المغلوطة للإخلال بالأمن الوطني وزعزعة ثقة الفرد بقيادته وبمواطنيه، ومجتمعه، كما يفعل الإعلام الصهيوني منذ سنوات. إن الدول والمنظمات التي تنشد النجاح لنشر أفكارها وقيمها في عصرنا الحديث لابد أن تعي إستراتيجيات التعامل مع الحرب الفكرية والتي من ضمنها الحرب على الإرهاب وحروب الفكر التي نمت وتطورت، وأصبحت صناعة الأفكار صناعة لا يستهان بها، فمواجهة الفكر المتطرف، والأفكار غير السَّويَّة غير ممكنة إلا من خلال الفكر المبني على قاعدة صلبة ولغة عصرية مفهومة وقريبة للمجتمع ولأفراده ومن أجل ذلك كله، أعلنت وزارة الدفاع السعودية في عام 2017م تأسيسها لمركز متخصص لملاحقة الإرهاب «فكرياً» باسم «مركز الحرب الفكرية» والذي يرأس مجلس أمنائه وزير الدفاع، ويختص المركز لمواجهة جذور التطرف، والإرهاب الفكري، وترسيخ مفاهيم الدين الحق، كما يعمل على ملاحقة أيدلوجية التطرف في جميع وسائل التواصل الاجتماعية، والتي تمثل كما ذكرنا أهم أدوات انتشار التطرف والحرب الفكرية في وسائل التواصل والتي تمثل أهم أدوات الحرب الفكرية إضافة إلى المواد التي تبثها الجهات الإعلامية المختلفة سواء مباشر أو غير مباشر، على أن يتم ذلك كله بالطرح العالمي والفكري المؤصَّل على الفهم الصحيح والاستعانة بكل الخبرات المميزة في هذا المجال، ودون شك أن هذا المركز سيسد فجوة فكرية كانت شبه مهملة سابقاً وسيكون سنداً ودرعاً مهماً لردع كل ما من شأنه بث الأفكار، والأيدلوجيات المنحرفة، والإعلام المغر، والأفكار المدسوسة، ويحد من تفشي أضرارها ويكبح جماح انتشارها، وهذه خطوة رائدة على الدرب الصحيح, ونتمنى أن يتبعها خطوات متقدمة للحد من الحروب الفكرية وما ينتج عنها من أضرار. لكن من المهم في إطار إعادة بناء الخطاب الإعلامي إشراك الشباب وتشجيعهم على إنتاج خطاب بديل يناهض الأفكار الدخيلة والمتطرفة من خلال استثمار منابر الحوار وتطويرها لمساعدتهم في إبداء آرائهم، والمشاركة في صياغة اهتماماتهم ضمن الخطاب الإعلامي الكلي.. إن انفصال المؤسسات الإعلامية الرسمية عن اهتمامات المجتمع، وحركة الجمهور داخله يؤدي في النهاية إلى الانفصال عنه، وهذا بدوره يؤدي إلى أن يستقي الجمهور معلوماته من مصادر إعلامية متعددة تحمل كل واحدة منها أجندة ومصالح خاصة تسهم في تشكيل المعلومات وتزييف الحقائق وهنا يكمن خطر الحرب الفكرية، وفي هذا الإطار من المهم جداً أن يستوعب الخطاب الإعلامي السعودي الجديد التحولات الكبرى التي تشهدها المملكة بقيادة الملك سلمان -أيده الله- وولي عهده والذي لا تخفاه مثل هذه الأمور، وتوضيح أبعاد وطبيعة هذه التحولات للرأي العالمي والمحلي، وإنشاء مشاريع إعلامية ذات بعد إستراتيجي لإرباك الخصوم وتشتيت كل الأفكار المنحرفة وأصحابها، وروادها، ومن يعمل في مجال الحرب الفكرية التي من أهدافها التدليس على العباد، والانحراف إلى مسارات مضللة ومقصودة لأجل أهداف يرسمها مروجوها للوصول إلى أهدافهم.. والله ولي التوفيق.