أ.د.صالح معيض الغامدي
من المعلوم أن كاتب السيرة الذاتية لا يستطيع كتابة كل شيء في حياته بالتفصيل، لأن ذلك يتطلب منه أن يفني عمره في سبيل إنجاز مشروع كهذا، ولن يكفي عمر واحد. ولذلك فإن ما يفعله كل كتاب السيرة الذاتية بلا استثناء هو الأخذ بمبدأ التخير والانتجاب، إذ ينتخب كل كاتب مجموعة من التجارب الحياتية التي ترتبط بأبعاد معينة من حياته، قد تقل وقد تكثر، وكلما كانت هذه الأبعاد محددة وواضحة تقوى درجة الإتقان الكتابي لهذه السيرة أو تلك. والانتخاب والاختيار لا يكون عادة عشوائيًا، وإنما تحكمه ثيمات (موضوعات) محددة يختار الكاتب أن يركز عليها مثل: ثيمة الطفولة، وثيمة التعليم، وثيمة بناء الأسرة، وثيمة السفر، وثيمة التأليف ...إلخ.
ولعل من أهم الثيمات السيرذاتية التي تعطي النص السيرذاتي قيمة وحيوية ومصداقية ثيمة التحول، بمعناها العام: التحول الجسدي والمعيشي والعلمي والفكري والمهني الذي يطرأ على حياة كاتب السيرة الذاتية وكاتبتها.
فرصد الكاتب لهذه التحولات في حياته هو الذي يعطي سيرته حيوية وحركية وجدة، ويعطي القارئ فرصة لتتبع سرد مسيرة حياة الكاتب في جميع محطاتها الرئيسة.
ويتفاوت كتاب السيرة في سرد طبيعة التحولات التي مروا بها، فبعضهم اختبر تحولات طبيعية متدرجة يمر بها جميع الناس، وبعضهم عانى تحولات جذرية متتالية، وبعضهم كانت تحولاته في أغلبها إيجابية وآخرون كانت تحولاتهم سلبية... ولعل من أهم التحولات التي تجذب القراء في السير الذاتية التحولات الفكرية، وما يصحبها عادة من مراجعات فكرية ونقدية وأدبية وسياسية ..إلخ. يكون من شأنها إبراز حركية الذات السيرذاتية وهي تتشكل أثناء الكتابة وتتضح معالمها ليس للقراء فقط بل لكتاب السير أنفسهم. ولعل ثيمة التحول التي تبرز بوضوح تعدد الأنا السيرذاتية وانشطاراتها، التي تغدوا «أنوات» متعددة يقوم كاتب السيرة بتتبعها ورصدها في جميع مراحل حياته.
ولذلك فليس عيبًا ولا ضعفًا أن نجد في سيرة الكاتب الذاتية بعض المواقف أو المشاعر المتحولة أو المتبدلة تجاه بعض القضايا والموضوعات الفكرية والسياسية والمعيشية ...إلى آخره. فالعمر والمواقف والثقافة والتجارب والخبرات الحياتية تلعب دورًا رئيسًا في إحداث مثل هذه التحولات التي يمر بها الناس وتظهر بالضرورة في سيرهم الذاتية. وأعتقد أن هذه التحولات هي التي تجعل من كتابة الحياة كتابة إنسانية قبل أن تكون كتابة تاريخية أو أدبية أو فكرية!!