د.فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح
(قياس العلم بِعِدَّة الصَّفحات؟)
أيقاس العلم بعدد صفحات الكتاب أو البحث؟ هذا سؤال وارد، ومبحث مغفول عن موضعه، وهو قياس العلم بعدد الصَّفحات، والصَّحيح أنَّ العلم هو بمقدِّماته ونتائجه، وبعدئذٍ تأتي الصَّفحات تبعاً لذلك؛ أي: تأتي عِدَّة الصَّفحات تتمَّة وليس معموداً إليها قصداً، وأمَّا إن كانت هي الأصل أو هي المراعاة المقصودة فذلك مذموم ومنتقدٌ، ولا بدَّ من وقوع حشوٍ وتطويلٍ ونقول للتَّكثير.
وحمادى القول فيه أنَّ الحكم على التَّطويل بالطُّول ذمّاً أو الاختصار بالقصر ذمّاً ليس راجعاً ذلك إلى الطُّول لأنَّه طول ولا إلى القصر لأنَّه قصر، بل راجع إلى غرضه وثمرته وخدمته لموضوع البحث أو الكتاب، فحاله كحال الإطناب والإيجاز في علوم بلاغة مدحاً وقدحاً، وحقيق أمره راجع إلى أنَّه يأتي تبعاً لا قصداً على أنَّ الاختصار الخادم للمعنى خير من التَّطويل الخادم للمعنى.
تقسيم الكتاب والبحث أمر شكليٌّ أم أمر منهجيٌّ؟
من بدائع التَّصنيف أن يكون الكتاب متناسقاً في تقسيمه، ومحتوى كل ِّ قسم أو فصلٍ منه، فإذا جاء الكتاب في (500، أو 800) صفحة، فلا يحسن أن يكون فصل من فصوله عدد صفحاته (300، أو 400) والبقيَّة على (50) صفحة، كما أنَّ الكتاب ذو (360) صفحة لا يحسن أن يكون أحد فصوله في صفحتين، والفصل الآخر في أربع صفحات، والثَّالث في (100) صفحة، وهذا قد كان وقد وقفتُ عليه، وذلك أنَّ كتاباً منشوراً لأستاذ أكاديميٍّ كبير جاء أحد فصوله في صفحتين فحسب.
كذلك يجب أن تتناسب مقدِّمة الكتاب وتمهيده وخاتمته مع عدد صفحاته، فذو (800) صفحة لا يحسن أن تكون خاتمته في صفحتين مثلاً، ولا يحسن مثل هذا كذلك في مقدِّمته، إذ هذا معيبٌ في التَّصنيف، ومن المعايب أن يتضخَّم الكتاب بالنُّقول الَّتي ليس للمؤلِّف فيها سوى النَّقل، ومن المآخذ أن تتحوَّل الخاتمة إلى ملخَّص يذكر فيه مستخلص محتوى الكتاب؛ فتكون الخاتمة كالفهرس غير أنَّه لا تذكر فيها أرقام الصَّفحات.
وأمَّا متى يصحُّ مثل ذلك؟ أقول: يصحُّ مثل ذلك ولا ينتقد، ويصدق إذا كان البحث لإثبات برهان، أو سنِّ قانون، أو إحاطة ببيان استدراك، أو تحرير عبارةٍ، فمثل ذلك قد يكون البحث في مائة صفحة أو نحوها ونتيجة هذا البحث وهذا الجهد تكون في سطرٍ أو سطرين أو نصف صفحة، إذن تصحُّ تلك النَّتيجة لمن يبرهن بسنِّ قانونٍ، أو استخراج نظريَّة، أو رسم حدٍّ، أو رصف قاعدة، أو تحرير عبارةٍ غير أنَّها لا تسمَّى خاتمة، بل نتيجة وخلاصة.
كذاك الحال في المقدِّمة والتَّمهيد فهي تطول مع البحث الطَّويل وتقصر مع القصير إذا كان المحتوى محتوى لا مجرَّد نقول، على أنَّ من المعايب أن يتطاول الفصل إلى مئِين من الصَّفحات ويخلو من مباحث، ففي مثل هذه الحال يجب أن يكون للفصل مباحث وللمباحث مطالب؛ لأنَّ بتقسيمه إلى أجزائه يتقاصر عدُّه المئينيُّ فيصبح مقبولاً، فكلُّ مطلب يأخذ صفحاته، وتتألَّف منها مباحثه، وتصبح صفحات الفصل الكثيرة مفرَّقة على المباحث والمطالب، ولا تصبح آنئذٍ منتقدة ولا معيبة، كذلك يجب أن يكون الكلام في ذلك كلاماً علميّاً تنظيراً وتطبيقاً، لا كلاماً إنشائيّاً، ولا انفعاليّاً.
ممَّا يلاحظ على بعض الفاحصين، وأقول ذلك عن تجربة وعناء ومعالجة، وذلك ينكشف بيِّناً إذا كان البحث نقداً لكتابٍ أو بحثٍ بأن يعمد الفاحص إلى أن يجعل من نفسه محامياً عن الكتاب المنقود، ومحاجّاً عن صاحبه، فيغفل عن الحقيقة الَّتي هي حقيقته أو حقيقة عمله، وهي التَّحكيم لا المرافعة؛ لذا يجب على الفاحص والنَّاقد أن يكون عملهما في النَّقد والتَّحكيم تحقيقاً علميّاً، لا تكثير ملاحظ، ولا تقييد مؤاخذات.
وممَّا أُمثَّل له في مثل هذا أنَّه في بحثٍ لي انتقدتُ تقسيم فصول كتابٍ ما، وكذا عناوين الفصول، وأقرِّب المثال أكثر فأقول قد قسَّم المصنِّف المنقود كتابُه كتابَه إلى فصولٍ، وجاء فيه فصل عدد صفحاته صفحتان فحسب، وفصل آخر ثلاث صفحات، أليس هذا مستحقّاً للنَّقد؟ أفيكون الفصل في صفحتين إنَّ مثل هذا حقُّه أن يكون مسألة؟ ولا أقول مطلباً ولا مبحثاً، وكذلك أيكون عنوان الفصل سؤالاً؟
متبوع