د. شاهر النهاري
عبارة يقولها الكثيرون منا عندما يمرون بأحداث عاصفة أو ضرورة لإبراز مشاعر فرح أو عاطفة وحب، أو دهشة، أو حينما يلمحون مناظر فنية عميقة أو مثيرة للاشمئزاز أو الغضب، لا يستطيعون إعطاءها حقها من التعبير بواسطة اللغة المحكية، وبيقين أنهم كلما أعادوا تقويتها بواسطة مفرداتها وأدواتها، وجدوها غير مكتملة، وكأن الكلمات تبحث عن مرادفات لها، والحروف لا تسد الفجوات بينها، وقدرة توصيلها للمعاني في مرات عديدة لا تكون بنفس الحرارة، التي يشعرون بها في دواخلهم، ومهما أبدعوا في رصِّ الكلمات، فيظل هذا الشعور بالنقص يحدوهم، ويتمنون لو أنهم يمتلكون لغة أكثر تعبيراً وتبحراً، وسداً للفجوات، لغة لا يفرق لفظها ورجعها بين من يقولها ومن يسمعها، وكما يحدث في مقاطع أفلام عاطفية، لا يكفي فيها مجرد الكلمات، فتضاف إليها الصور والألوان المتأنقة، والمناظر الرومانسية المصاحبة، والموسيقى المنغمة، والقوافي العذبة، ولا بأس من أشجار ونهر وطيور وزهور تحيط بهم، لتجعل المستمع يعيش نفس أنفاس المتكلم ونبضات قلبه، وهياج هرموناته، وتفاعلات مشاعره الداخلية.
هذا النقص والحاجة تحدث في أعظم لغات الكون الكلامية، والتي تستوجب في مرات عديدة، أن يلتصق السامع بحركات الشفتين، ولمعة العينين، وبقية نشوة أو حزن أو عصبية ملامح الوجه.
اللغة نتاج محاولات البشرية للتمكن من إيصال المراد المتحصل في جوف شخص يبادر بالتعبير عن مكنونه، موجهاً كلماته إلى جوف شخص يستمع، أو مجموعة متلقين، وكلما كان فم المتحدث مرئياً، وحركة عينيه متضحة معبرة، وكانت لغة اليدين والجسد مساعدة في تثبيت معاني الكلمات وبروز المقصود، وتمثيل الحال، كلما وصل للمقابل نسبة أعظم من المعاني ومما يريد المتكلم توصيله للطرف الآخر.
ومن تميز وتمايز وتراكمية ذلك أنتجت عصور البشرية المفوهين المتمكنين من مخارج الحروف، والشعراء بقوافيهم، والزجالين، والمغنيين بقوالب طربهم، والخطباء بحماستهم، حتى يتمكنوا ليس فقط من توصيل أفكارهم، ولكن للسيطرة وجذب الأسماع والأنفس لسحرهم، وتسخير المشاعر لبديعهم، وجعل الأجساد تتمايل إما طرباً أو رقصاً، أو تنطوي حزناً، أو تدخلهم في شموخ وعزة وتشنج ووقفات ولاء وتشجيع، مقتنعين حد الإيمان بما تؤطره الكلمات من متعة أو موت أو ذوبان وسط قطعان المجاميع.
ولعل الكلام والأداء المحكي يكون أكثر عمقاً ووضوحاً عن مجرد استخدام لغة الإشارة، تلك التي تحاول بلوغ قدرة التعبيرات والشفافية، التي تبلغها اللغة المحكية، عند من فقدوا حاسة السمع، ومن لا تكون ألسنتهم قادرة على نطق الحروف.
وكم يكون من الصعب إدراك وقياس الفرق بين نسبة إيصال اللغتين بدقة، خصوصاً مع المفارقة العظيمة في تكوين المرسل والمستقبل، والأدوات، وفيما يدركه السامع المتكامل الحواس، مقارنة بما يدركه فاقد إحدى الحواس أو أغلبها، فيظل يراقب إشارات اليد وملامح الوجه، محاولاً ترجمتها من خلال جزئيات أدوات لغة الإشارة بكل فجواتها المتسعة.
ورغم أن لغة الإشارة تتباين في حركاتها وأدواتها بين منطقة جغرافية وأخرى، ولكنها تعتبر قفزة عظيمة تخطت بها البشرية كثيراً من المعوقات المعجزة، بأن رفعت قدرة التفاهم عند أعداد عظيمة من الصم وغير الناطقين، وبغرض تعويض وجبر طرق التفاهم والتواصل عندهم، وبما لم يكونوا يحلمون.
ولكن هل ما يقوم مستخدم لغة الإشارة بتبيانه عن مراده ومشاعره هو نفس ما يبلغه، ويقوم بتوصيله من يتحدث لغة محكية؟
دقائق هذا سؤال يصعب تحديد فروقها والحكم عليها من خلال معلومات موثقة للمفارقة بين الحالتين، فمهما استطاع المتكلم بالإشارة إتقان لغة التواصل الصامت لديه، يظل ما يوصله من معلومات يحتاج إلى زيادات لا يسهل التحقق من قدرة نقلها، مثل التناغم مع النبرة، والألحان، والحماسة أو الحزن فيما يحاول توصيله، متابعاً ومتناغماً مع مشاعر من يحادثه في كل جزئية من اللغة.
وكم تتعقد الأمور وتصعب عند من تكون إعاقاته ثلاثية بفقد السمع والنطق والشوف؟ حيث إن لغة الإشارة هنا تتقلص في مساحاتها وفوائدها، ويصبح اللمس هو وسيلة التخاطب فيها.
لغة ما يسمى بالتخاطر عن قرب، وعن البعد، هي فكرة تواصل غير مؤكدة، وبمنهجيات ظن بدائية محدودة مفتوحة للباحثين، فالتوائم يستطيعون بشكل غير محدد معرفة بعض ما يشعرون به، وما يرومون عند الشك وقبل الهروب من الخطورة بنسب تختلف.
مجرد قيام الأم بالنظر لعين ابنتها، ربما يجعلها تفهم مرادها، بالتعود، وربما يختلط عليها المقصود، وربما تخطئ، ما يجعل هذه الوسيلة تجريبية مربكة، لا تبلغ حد التواصل الموثوق.
بعض علماء الذكاء الاصطناعي يبشرون بإمكانية تطوير أدوات البشرية التواصلية عن طريق التخاطر، ما سيؤدي لضمور الحاجة للشفتين واللسان، من خلال التدخل العلمي جراحياً بشرائح إليكترونية تزرع في الدماغ، وتستطيع نقل المعلومات عبر نبضات تخاطر مقصود، وهذا ما يزال أيضاً في مراحله التجريبية.
طرق التواصل موجودة متعددة، وهي تتطور بيننا مع تقدم حضارات البشرية، ولكنا فعلاً نجد أن اللغة حتى الآن ما تزال تحمل لواء أفضل معاني التواصل مع من نجري معهم محادثة، وبشكل قريب من المثالي، يضمن لنا نقل أغلبية كلماتنا ومشاعرنا وأسرارنا، لمن يقابلنا، مع حرصنا على أن يفتح معها الطرفان قلوبهما وعقولهما، لتتكامل أجزاؤها ولا ينقص منها لمحة، ولا نقرة.
اختلاف الألسن واللغات عائق يقف أمام تقدم البشرية، ويمنعها من سرعة وشفافية النقل، ولكن الإنسان جبار، وربما في عصر قريب، لن نكون من شهوده، سيبلغ تلك اللغة الشاملة الحلم، التي يتمناها كل البشر، مكللة بمختلف الوسائل، ومغنية لكل الحواس، وقادرة على تخطي جميع المعوقات، وإبدالها ببدائل تواصل مبتكرة.