د.نادية هناوي
تعد اللاواقعية الأصل أو الأساس الذي عليه قامت كتابة القصة الطويلة الأوروبية ( الرومان) التي سميت فيما بعد بـ(النوفل) وبدأت كتابة هذه الرواية في القرن الثامن عشر على أيدي النساء الإنجليزيات. وما شاعت التسمية الأخيرة إلا كانعكاس لمركزية اللغة الإنجليزية بين اللغات الأوروبية الأخرى وكتعبير عما صار لبريطانيا من قوة استعمارية عظمى في العالم آنذاك. فاتجه كتّاب الرواية نحو تجسيد هذا النظام المجتمعي الجديد الطبقي والرأسمالي والاشتراكي، وقبل ذلك الاستعماري بكل صناعيته وماديته. فتزايدت الروايات وكثرت طباعتها، وبدأ يصل بعض منها إلى البلاد العربية.
وأخذ العرب منذ منتصف القرن التاسع عشر بترجمة روايات ألمانية وفرنسية وروسية، وبعض المترجمين كانوا قصاصين. وهو ما جعلهم يتفاعلون معها تفاعلاً تفرضه طبيعة التقاليد السردية المتبعة وما تقتضيه آليات الترجمة وطبيعة المجتمع العربي. ولم يكن يلفت انتباه القصاصين العرب تجنيس هذا اللون من الكتابة الأجنبية بقدر ما كان يلفت انتباههم طولها قياساً بالطول الذي كانت عليه القصة العربية وما يلحق ذلك من تنوع في الأحداث والشخصيات.
وفي حدود هذا القرن نفسه وما بعده بقليل لم تكن تقاليد الكتابة السردية المتبعة في هذه الروايات بالمفاجئة للقاص العربي، لأن الرواية هي تركة البضاعة التي كان العرب قد صدّروها إلى أوروبا خلال القرون الوسطى وها هي ترد إليهم في القرن التاسع عشر، وقد أُلبست ثوباً جديداً غربيّاً، نَسَجَه فكر مادي استعماري وأراده سرداً حديثاً، تعود تقاليده إلى الإغريق والرومان.
ولا ريب في أن القاص العربي سعى -في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين- إلى اتباع القاعدة اللاواقعية مع بعض التغيير في طول القصة مما صارت تقتضيه طبيعة العصر تماماً كما فعل نظيره الأوروبي، إدراكاً منهما أن قالب القصة لا يمنع من التطويل وتجريب كتابة القصة الطويلة، فكان أن كتب جرجي زيدان ونبيلة هاشم وفرح أنطون روايات تاريخية واجتماعية.
وهذا الوعي الذي امتلكه القاص العربي في القرن التاسع عشر افتقر إليه بعض مؤرخي السرد ونقاده العرب في القرن العشرين من الذين فسّروا هذا التجريب بأنه محاولة أولى للكتابة على غرار الرواية الأوروبية. ولقد كان دور هؤلاء المؤرخين والنقاد كبيراً في إشاعة فكرة كان المنظرون الغربيون قد رسخوها وهي أن الرواية جنس أدبي أوروبي وأنها وريثة الملحمة. ولا يقصدون بهذه الملحمة الموروثة ( جلجامش) الرافدينية التي هي أول ملحمة مدونة في تاريخ البشرية، بل يقصدون الإلياذة والأوديسة الإغريقيتين.
وما من شك في أن الملاحم ورثت الحكاية الخرافية وتأسست على ما في هذه الحكاية من اللاواقعية، وعلى ما في الأساطير من خيالية ممتزجة بوقائع تاريخية. ولقد انتقلت هذه التقاليد الأدبية السردية والشعرية من أدب وادي الرافدين إلى آداب مجاورة وكان لتأثيرات اللغة الأكدية في اللغات السامية ومنها اللغة العربية أثر مهم في عملية الانتقال تلك.
وبهذا استلهم القاص العربي من ذلك الإرث القديم تقاليده التي عليها بنى حكاياته وأخباره. وتم تدوين بعضها لكن بعضها الآخر بقي يتناقل شفاهياً. وبمرور الزمان شكلت التقاليد نظاماً سردياً قائماً بذاته، تجسّد عملياً في قالب القصة العربية. ومن خلال هذه القصة انتقلت تقاليد السرد العربي القديم إلى القصة الأوروبية. وخلال عصر التنوير، شهدت هذه القصة تغييرات وتحويرات موضوعية وفنية طفيفة وتطورت بعض تلك التقاليد، فكان أن تبلور قالب الرواية كوريث لقالب القصة العربية واتخذ من الأصل الذي عليه قامت القصة وهو اللاواقعية قاعدة له أيضاً.
ولقد غابت عن كثير من نقاد الرواية ومؤرخي الأدب، حقيقة أن القاص العربي في القرن التاسع عشر كان يبني قصصه في العموم على ما عرفه واعتاد عليه من تقاليد السرد العربي القديم، سائراً فيها على نهج حكايات ألف ليلة وليلة أو مقامات الهمذاني والحريري أو أخبار الجاحظ ونوادره وغير ذلك كثير جداً، ناهيك عما كان لسرد القصص من أهمية ومنزلة في حياة العرب على مر العصور، وإلا ما كانت حكايات ألف ليلة وليلة أول الكتب التراثية التي طبعت بعد منتصف القرن التاسع عشر.
وغدا لكتابة القصص في الصحف والمجلات -مثل صحيفة المقطم وصحيفة مصباح الشرق وغيرهما- أثر مهم في أن تلقى أعدادها قراءً يتابعونها. وكان بعض القصاصين العرب يترأسون أو يشرفون على تلك الصحف وفيها ينشرون قصصهم متسلسلة ومتوالية تحت عنوان واحد.
أما تسمية القصة بالمقامة فلأنها نوع من أنواع القصة التي ما كان لها أن تولِّد أنواعاً لولا اكتمال قالبها شكلاً ومضموناً. وليس كما تصور بعضهم من أن المقامة سرد قصصي لا تنطبق عليه مواصفات القصة الفنية كقص غير مكتمل البناء ولا واضح القالب ولا محدد الإطار. ولو كانت القصة غير مكتملة القالب ولا واضحة الحدود؛ فلم إذاً اتخذها القاص العربي وسيلة من وسائل ترويج الصحف بين القراء آنذاك ومن خلالها عبّر عن أفكاره في نقد المجتمع وتثقيفه ؟.
لقد ورث قاص العربي القرن التاسع عشر عن أسلافه تقاليدهم السردية وأفاد منها في أحلك الظروف، عارفاً أهمية القص في التوعية بالمصير ومقاومة أهوال الزمان. وإذا كانت مصر هي أكثر البلدان العربية نشاطاً في هذا المجال فلأمرين وفرا لها ظروفاً ثقافية ساهمت في زيادة الوعي والتثقيف المجتمعي. يتمثل الأمر الأول في ما جلبه الاستعمار الفرنسي إليها من مطابع، والثاني يتمثل في هجرة أدباء الشام إليها على إثر الحروب الأهلية في سوريا ولبنان. وقد ساهم أغلبهم في تأسيس صحف ومجلات ومارسوا الأدب والترجمة مثل يعقوب صنوع وفرح انطون ونبيلة هاشم وغيرهم.