شوقية بنت محمد الأنصاري
من قصر عرقة بالرياض تشكَّلت مراسم العرس الثقافي بموافقة مجلس الوزراء على تسمية عام 2023م بعام الشعر العربي، لتأتي عروس القوافي (القصيدة) وتستأثر المنابر الرسمية الحكومية والخاصة، وتخطف أنغامه القنوات المرئية والسمعية، فيتسابق للغناء بها الصغار والكبار، الإناث والذكور، وهذا ما يعمق بصدق حضور موسيقى الشعر العربي بكل تكوينه في شخصية العرب كهرمون جيني متوارث، فكان لحراك وزارة الثقافة ممثلة بهيئة الأدب والنشر والترجمة بصمة وهج وعظمة نفور يحقق معالم السلطة للشعر الفصيح والنبطي، وتنطلق بشراكاتها مع أكاديمية الشعر العربي بفرسان القصيد وفارسات البيان تجوب بإبداعهم من الخليج إلى أقاصي الوطن العربي، وانجذبت العقول لتجربة المسرحية الغنائية الشعرية كان لسلطان حرفها الشاعر الأمير عبدالرحمن بن مساعد آل سعود جذور إرث عربي تأصلت ب(معلقاتنا امتداد أمجاد).
هذه الفعاليات أعلنت في زواياها ولادة موهوب صغير بلسان شعره يتغنى، وينافس نوابغ الشعر مترنما بأبيات القصيد في شموخ وهيبة، رصدتها مسابقة مجمع الملك سلمان الدولي للغة العربية الموسومة ب(تحدي الإلقاء للطفل) لتكشف التجارب عن أصوات انغمست ذائقتها الجمالية مع الشعر، وتتعمق المنافسة حضورا لفئات يافعة وشابة تناديهم في مسابقة (صوت القصيد) وتقدمتها فعالية (الإبداع الأدبي) بين الشعر الفصيح والنبطي، هذه المؤشرات تأخذنا لقراءة الإبداع الشعري لدى جيل الثقافة العصرية، وكيف لهذا المخزون الشعري أن تنقل موسيقى أنغام قوافيه الإبداع الفكري للأطفال واليافعين لخوض تجربة كتابة القصيدة العامودية أو قصيدة النثر أو الشعر النبطي، هل أخذت هذه التجارب حقها من الصقل والتجويد والتدريب؟ وهل وجد إنتاجها الإبداعي حظّه من الدراسة الأكاديمية والقراءات النقدية؟ خصوصًا أن ساحتنا الوطنية أثبتت من خلال فعالية (عام الشعر العربي) جوهر الشعر الجميل الذي يتناقله الأطفال واليافعون والشباب، وإذا بها خلاصة مركزة للتجارب والخبرات، بصدق مكنون المشاعر والعواطف ولب التبصّر والفكر، فيعيش الطفل واليافع التجربة بين واقع محسوس مرئي وبين تفسيرها بلغة شعرية شاعرية تجعله فكره الناقد يحرك مهاراته والمواهب، وقد تحقق اليوم ولادة الشاعر الصغير وإن كان المشهد الإنتاجي يؤرجح حضور الإناث أكثر من الذكور، ظهر ذلك جليًا في كتابي المشترك مع (75) طفلا أديبا (أدب الطفل بأقلام الناشئة) وتضمن أكثر من عشرة قصائد وجميعها ليافعات نابغات في الشعر، كما استمطرت مكتباتنا الوطنية بكتاب (على جناح غيمة) للمؤلفة الشاعرة الأستاذة القديرة (عفاف الصبحي) تجمع (34) شاعرة من مختلف مناطق الوطن لتحلق كلماتهن الفضاء الحالم وتطير عبر أنغام القصيد ممطرة بالجمال الذي نراهن بإبداعه الأدبي والفني والعلمي على مستوى العالم أجمع، حيث يمتلك هؤلاء النخبة تنوعا في المهارات تجاوزت القصيدة إلى القصة والرواية والمسرحية، بل والخوض في منافسات الأبحاث العلمية والابتكار، جميعها عوامل تثري تجاربهم وذائقتهم الشعرية والأدبية، وهو الترجمان لجيل الآداب، يصفها الدكتور (علي الحديدي) بقوله: «التجارب الشعورية والعاطفية لدى الصغار مماثلة لتجارب الكبار، ولا تختلف إلا في مثيراتها وحوافزها، والأطفال يتوقون إلى إدراك هذه التجارب والشعر يحقق لهم ذلك».
ويبقى المؤشر المثير للاهتمام والعناية حول تحولات الكتابة الشعرية من وإلى الطفل، بتأكيد حضور شعر الأطفال وروّاده ونقّاده في عام الشعر العربي، واستقطاب تلك الأسماء الطفولية واليافعة المتوّجة بالفوز في مسابقات وزارة الثقافة ضمن فعاليات المؤسسات الحكومية والخاصة وأمسيات الشريك الأدبي، فهنا تأتي نزعة الإنسانية على ذائقة الأجيال المبدعة ومسؤولية المثقف والقارئ والكاتب إلى جانب عنايته بإبداعه وغيرته على لغته الشاعرية وسلطة حضوره في كل فعالية أن يصطحب ويرعى من هذه المواهب الواعدة لتزداد خبرة وثراء في لغتها الشعرية خاصة، ويزيدها ثقة وفخرا برسالة صناع القرار حولها، وقد صدق (العقاد) حين فسّر معالم التوجيه في مقدمة كتابه (اللغة الشاعرة) حول دور حضور الشعر بين الأجيال، بقوله: «من واجب القارئ العربي أنه لا يطالب بحماية لسانه ولا مزيد على ذلك، ولكنه مطالب بحماية العالم من خسارة فادحة تصيبه بما يصيب هذه الأداة العالمية من أدوات المنطق الإنساني، بعد أن بلغت مبلغها الرفيع من التطور والكمال، وإن بيت القصيد هنا أعظم من القصيد كله لأن السهم في هذه الرمية يسدد إلى القلب، ولا يقف عند الفم واللسان، وما ينطق به في كلام منظور أو منثور».
لقد نجحت لغة الأطفال واليافعين الشعرية أن تبعث سهام جمال لغتها إلى قلوبنا، فخصصتُ مقالتي حول قراءة إنتاجهم وإنتاج من كتب لهم، لمظهر طبيعي مع الأجواء الشتوية الماطرة المثيرة للتأمل في أشعارهم واستحضار فل سفتهم حول قراءة الواقع والوجود، معززين القيم والإيجابية في رسم المعنى الجمالي بلغة شاعرة محققة الوظيفة الخالصة من أشعارهم، خصوصًا أن الانفتاح المعرفي الواسع يشكل لأجيال العصر مشكلة لاستيعاب المفردات العلمية الوافدة ونظمها داخل سياق لغوي تعبيري موسيقي محبوك ومميز، والفارق هنا هو (الإبداع) بكل فنونه الذي تشكل من عنوان الكتاب (على جناح غيمة) لقصائد شاعرات يافعات رسمن نظمها على جناح طائر أو طائرة تضيء بنور حلم فطري لا يكاد يخلو من تفكير الطفولة البشرية ألا وهو الطيران، فكان لاختيار الجناح ودلالته اللغوية ما يحاكي طبيعتهن العمرية التي ما زالت تعيش طفولتها المتأخرة وحلم الطيران يرافقها، لتتلقاهم غيمة الطهر ودلالة اللغة مقرونة بالعمر، حيث البراءة الطفولية جوهرها، والشغف لتحقيق الحلم والمغامرة، فكان لنبض الشعر وقع جمال هطل على المسامع والقلوب في ديوان شعري ببصمة الطفل الخيالي.
وما أن تتحرك الأنظار بين صفحات الديوان حتى تتلقاك قصيدة ربيع الأحلام ل(روان الصاعدي) وصورة الذات بها شامخة تعلو وترافق النجمة، وصوتها مع الرحمن صادق الدعوة:
ما كنت لغزًا صدقوني إنني
نجم أطل من السماء فهاما
وعزمت أن أدعو كريما في الدجى
فعطاؤه فوق الغمام غماما
لترسم مفردة (نجم) طموح الجيل وثقته بذاته البارعة، وصوت شغفها يشكل لغزا لمن يلحظها، لتأتي قيم الدين والحرص على منازعة غرور الذات، فتسترد عزمها بصوت الدعاء محافظة على شموخ همتها، الجميل في لغة الأجيال الشاعرية قدرته على توظيف الحوار ليعزز للمتلقي تمكنه وجودة إبداعه بلغة جاذبة، كان الغيم والمطر خير معين له في استحضار صورته الشعرية، فكيف إذا خصّ بهذه الصورة معلمه ومدربه في الشعر، تصف (هلا الجهني) -الفائزة بجائزة الأمير عبدالله الفيصل للشعر الفصيح 2021م برعاية أكاديمية الشعر العربي- معلمتها (عفاف الصبحي):
رآكِ غماما فاستظل بظله
وفاض حنينا من عطائكِ واشتهى
فذات المتعلمة المتعطشة للقاء وحنين معلمتها، تتشكل برمزية (الظل والغيم) في ثنائية تواصل طبيعية جاذبة دفعت الشاعرة لتتبع غيمة النور والعلم والعطاء الماطرة، التي يكتنز عندها الأمان وكأنها في مرصد فلكي لتتبع الحالة المطرية، فكانت لغتها الشاعرية العاطفية تفصح عن مشاعر صادقة زادتها المعرفة بالطبيعة فكرا آخر يلامس ذائقتها الجمالية.
ولا تغادر مشاعر الحب مرحلة الطفولة ليستحضرها أغلب الشعراء في قوافي الشعر، فكيف بهذه النخب الصغيرة الشاعرة، ومن أصدق قولا وفعلا منهم إذا أحبوا تمطر الفرحة بالأرض، وتزداد بلحظة نزول المطر في سباق معهم لنعود لطبيعتنا الأولى لمهد أرض احتوت بطينها ملامح أنس تبعثه موسيقى المطر حولنا، وهذا ما رسمته (فايزة المنقاوي) بقولها:
قلبي يجود كغيث السماء
إذا فاض حبًّا أتى وانهمر
لقد حققت مفردة (يجود) أجمل دلالة نفسية للشاعرة حيث البهجة والفرحة بالعطاء، لتزيد من خيالها برسم التشبيهات ذات العمق الدلالي الفائض المنهمر حبا لمن حولها، والسماء ترافق علياء فكرها الإبداعي وتمطر لغتها بشاعرية بمنطق فلسفي يحاكي الطبيعة وبلاغتها التي لا تنحصر. وجاءت (أثير الزهراني) على أنغام لغة (فايزة) الشاعرية والشعرية، والخيال يلازم فكرتها، لنجد الصورة الفنية تشكلت من قيم أخوية دينية وفلسفة معرفية، مع الواقع المحسوس رقة للربيع والغيم والورد، لتكتمل بجمال المقابلة:
فهو الربيع المورق في كل حين
كالغيم يحمل جوفه قلب رقيق
كالورد ينشر حوله عطر الشذى
كالغيم يمطر بسمة نعم الرفيق
ولا تكاد تختلف (رهف البقمي) عن (فايزة) في التشبيه بالغيم بلغة شاعرية حين قالت: «أنت النور في جانبي المظلم الحزين وأنت من أضع رأسي على كتفه وأبكي دونما تردد أشبه بغيمة غيث أحيت عرق الوتين ... أيا أخي ... يا مهجة القلب الضرير، يا روحا لنا أجمعين» ولكن يكاد الخيال يضعف لدى رهف، وذلك لسيطرة اللغة الحزينة الظاهرة على مشاعرها المكسورة البئيسة، فجاءت مفردة (القلب الضرير) توحي بأن حنان أخيها وإن أحيا أنفاسها لكنها ما زالت وسط الألم، لم تفسح للخيال أن يزيد من راحة روحها.
أما عن لغة المطر في الشعر المكتوب للأطفال فتكاد تكون محدودة بحثت في عدة دواوين شعر الأطفال لم تتوظف سوى بديوان (أصدقاء مريم) للأديب (حسن الربيح) بعنوان (المطر):
اسمي مَطَرُ، وأَبِي غَيْمٌ
وأَعُودُ إِلَى جَدِّي البَحْرِ
لا أَتَعَبُ مِن طُولِ الرِّحْلَةُ
لا أَسْأَمُ تَكْرارَ الرِّحْلَةُ
وعَلَى الْأَرْضِ تَرَى أَبْنائِي:
ذا الزَّهْرُ، وذاكَ الشَّجَرُ
هذا العُشْبُ، وذاكَ الثَّمَرُ تُشْبِهُنِي
كَرَمًا، وَعَطَاءَ أُشبِها فَرَحًا، وبَهاءَ
لا شك أن اللغة الشعرية التي وظفها الشاعر أخذت الطابع المعرفي لدورة الماء بالكرة الأرضية ليستعيد الطفل الصورة المرسومة الملونة من منهجه المعرفي مع الصورة الشعرية، ويعيش رحلة التفكير الناقد ليجد في الشعر رسالة تأثير حسي تزيده انفعالا لترديدها لحظة نزول المطر، وتعمّق فيه التأمل والمحاكاة والإبداع، ومثل هذا الشعر يتناسب مع مراحل الطفولة المتقدمة التي تنجذب لموسيقى الشعر لمحدودية مخزونها اللغوي، على عكس ما أثرى به الشاعرات اليافعات واللاتي يمثلن الطفولة المتأخرة التي انغمست بالشعر العربي قراءة وحفظا، فكان نتاجها أقرب لشعر الكبار بلغة تفوق لغة الصغار، وعلى غرارها تأتي قصيدة المطر للشاعر المرحوم (عبدالله الخالد) في ديوانه (أناشيد الطفولة) لتزيد هذه اللغة الشعرية البسيط من الثراء اللغوي الموزون بجرس ونغم لدى الأطفال:
مطر مطر مطر تَعَالَ يا مَطَر
لِتَرْوِيَ الحُقول فَنَجْنِيَ الثَمَر
مطر مَطَرْ مَطَر يَلوحُ في السماء
قد أقبل الشتاء سَيَهْطُلُ المَطَرْ
وفي ذلك يصفها (العقاد) بقوله: «إنما نريد باللغة الشاعرة أنها لغة بنيت على نسق الشعر في أصوله الفنية والموسيقية، فهي في جملتها فن منظوم منسق الأوزان والأصوات، لا تنفصل عن الشعر في كلام تألفت منه، ولو لم يكن من كلام الشعراء، اللغة الشاعرة وهذه الخاصة في اللغة العربية ظاهرة من تركيب حروفها على حدة، إلى تركيب مفرداتها على حدة، إلى تركيب قواعدها وعباراتها، إلى تركيب أعاريضها وتفعيلاتها في بنية القصيد».
أما ما يخص واقع الصورة الفنية لقصيدة شعر الأطفال لدى الشاعرات اليافعات فإن تفسيرها يستحضر النظريات الجمالية التي تتشكل منها مسارات الإبداع الفكري واللغوي والفلسفي، يصفها (نوكس) بقوله: «هذا الشكل من الإدراك الحسي، بمعنى أن الفن هو الذي يقدم الحقيقة للوعي عبر المظهر الحسي، غير أن مظهره يترك خلف الظاهر معنى أعلى وأكثر قيمة، رغم أنه ليس مطلوبا منه، حسب وظيفته أن يعبر في الحس عن الطابع العقلاني الكلي للفكرة» ويصفها (هيجل) بقوله: «مضمون الفن هو الفكرة، كل عرضها فيقوم في أشكال الحس أو صور المخيلة».
ختاما إن شعر الأطفال خاصة وأدب الطفل عامة هو الجمال والإلهام الذي يبرهنه الجيل ويؤكد فيه قدرته لرسم مستقبله الثقافي المواكب للغة عصر حضارية، ويزداد حماسه للمنافسة بحكمة وسط المتغيرات المعرفية السريعة، هم نهضة أدبنا العربي ونهضة أمتنا، وما نستلهم الشعر إلا من جمال قصصهم:
في عصر الابتكار لا بد أن نختار
بالعلم والبرهان نعمّر الأوطان
من بيئة خضراء تشجيرها نماء
نقاوم التصحر بالحب دوما نمطر
وغيث الله عامر يُحْيِي بلا مخاطر
نعيش في رخاء ننادي للعلياء
بثقافة الفنون لإرثنا نصون
عجائب المواهب بطفلنا نواكب
في عصر الابتكار الأدب قرار