ناصر العديلي
«الثقافة هي أساس المجتمع الاستهلاكي وكل شيء فيه أصبح ثقافياً»
فردرك جيمسون
لم تعد ما بعد الحداثة حركة فكرية تناهض حركة الحداثة والتنوير والعقلانية وفكر الحداثة المتعلقة بالأفكار والثقافات والهويات والتاريخ، بل أصبحت طريقة تفكير وأسلوب حياة وتقنية مهيمنة على السلوك الإنساني ووعي ذاتي وإحالة ذاتية ونسبيه للحقيقة والمعرفة والأخلاقيات والتعددية، كما أصبحت ممارسة ثقافية للرأسمالية الجديدة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والصناعي والإعلامي والمعلوماتي والتقني، وأصبحت سمة من سمات حياتنا اليومية وتقنية ذات سلطة آلية رأس مالية متغولة في حياتنا اليومية يصعب التخلص منها.
وإذا كان ليوتار Lyotard في كتابه (حالة ما بعد الحداثة) يسقط السرديات الكبرى (كالفلسفة والأيديولوجيات كالشيوعية والرأسمالية) ويطور مفهوم الألعاب ويحتفي بالتقنية والاتصالات والإعلام الجديد، كما أوضحنا في مقالنا (ثقافة ما بعد الحداثة والتنوير التقني) المنشور بالصفحات الثقافية بهذه بصحيفة الجزيرة العدد 18171 بتاريخ 18-19/11/2022، فإن فردريك جيمسون يتفق مع ليوتار في جوانب ويختلف معه في رؤى أخرى واتضح ذلك في مقدمة جيمسون لكتاب ليوتار عن حالة ما بعد الحداثة، لكن جيمسون بعد تعمق ومتابعة لما بعد الحداثة وثقافة الرأسمالية المتأخرة والتي اعتمدها كمؤثر قوي ومحفز لما بعد الحداثة في مجالات متعددة سياسية واقتصادية وفنية موسيقية وتشكيلية وأدبية وفي العمارة، واعتمدها كمنهجية ومنطلق لطروحاته، مع إيمانه بتأثير التحولات التقنية واتصالات الإعلام والوسائط الحديثة.
الرأسمالية المتأخرة
أول من استخدم مصطلح (الرأسمالية المتأخرة) هو عالم الاقتصاد والاجتماع الألماني فيريز سومبارات Werner Sombart (1863-1941) في بداية القرن العشرين. وهي تعني وتشير إلى مزيد من التوراة عالية التقنية وتركيز رأس المال المالي (المضارب) وما بعد الفوردية وتأيد عدم المساواة في الدخل
ويرى سومبارت أن الرأسمالية تمر بثلاث مراحل هي:
1- الرأسمالية المبكرة وتتمثَّل قبل الثورة الصناعية
2- الرأسمالية العليا، وتبدأ من 1760 م
3 - الرأسمالية المتأخرة، وتبدأ من الحرب العالمية الأولى وما بعدها
تطور استخدام الرأسمالية المتأخرة
بدا استخدام المصطلح في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا في عام 2010، للتعبير عن الأزمات والتناقضات والظلم وعدم المساواة الناتجة عن تطور الأعمال الحديثة، كما سميت الرأسمالية المتأخرة أو التوسع الاقتصادي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية بـ «العصر الذهبي للرأسمالية» وتطور المصطلح بعد ترجمة كتاب (الراسمالية المتأخرة) لمؤلفه ارنست ماندل عام 1975 وقد وضح ماندل في كتابه أن ثمة تغيرات مهمة ونوعية داخل النظام الرأسمالي أثناء الحرب العالمية الثانية وأن هناك حدوداً للتطور الرأسمالي.
وقد تطور استخدام هذا المصطلح في دول عديدة في أرويا مثل النمسا ثم وانتقل إلى بلجيكا وألمانيا، وزادت أهمية مصطلح الرأسمالية المتأخرة بعد الحرب الجديدة واعتبره المفكر الفرنسي جاك دريدا الرأسمالية الجديدة بدلاَ من الرأسمالية المتأخرة، بينما فضل المفكر تيودورو ادرنو مسمى الرأسمالية المتأخرة على المجتمع الصناعي والذي كان حديث المؤتمر السادس عشر لعلماء الاجتماع الألمان عام 1968
وطور ليوكوفر المفهوم في كتابه (العقلانية التكنولوجية في أواخر الرأسمالية)، كما نشر كلاوس أوف مقالة بعنوان «الرأسمالية المتأخرة محاولة لتعريف المفهوم عام 1972 ثم نشر المفكر الألماني هابرماس كتابه (مشاكل الشرعية في أواخر الرأسمالية) ثم نشر أرنست ماندل أطروحة دكتوراه عن (الرأسمالية المتاخرة) بالإنجليزي وأيد المفكر ماركوز هذا المصطلح.
ورأى ايمانويل والرشتاين ان ثمة نظام عالمي جديد يستبدل الراسمالية، ويستعير فردريك جيمسون (1934Fredric Jameson) عالم الاجتماع والناقد الامريكي مصطلح الرأسمالية المتأخرة من ماندل في مقالته المنشورة 1982 بعنوان (ما بعد الحداثة والمجتمع المستهلك).
ونظراً لأن جيمسون شرع باستخدام مصطلح» الرأسمالية المتأخرة «في كتاباته بصفته أحد مطوري هذا المصطلح وربطه مع ما بعد الحداثة، فإننا سوف نقوم بإضاءة جوانب أفكاره الواردة في كتابه (ما بعد الحداثة: المنطق الثقافي للراسمالية المتأخرة:
Postmodersm or The Culturral Logic of Late Capitalism 1991 .
يرى جيمسون في كتابه أن ما بعد الحداثة هي مرحلة انتقالية بين مرحلتين من المراحل التي مرت بها الرأسمالية أو الرأسمالية الاستهلكية المتأخرة أو ما بعد الثورة الصناعية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، ويعتبر الثقافة هي أساس المجتمع الاستهلاكي وكل شيء فيه أصبح ثقافياً
ويعرف جيمسون ما بعد الحداثة بأنها ليست كلمة أخرى لوصف أسلوب معين، بل هي مفهوم تكمن وظيفته في الربط بين ظهور خصائص شكلانية جديدة في الثقافة وبين ظهور نمط جديد من الحياة الاجتماعية والنظام الاقتصادي الجديد وهذا ما يشار له مجازاً بالتحديث، ومجتمع الاستهلاك أو مجتمع ما بعد الصناعي ومجتمع وسائل الإعلام أو الرأسمالية متعددة الجنسيات، وهي الفترة التي شهدت بزوغ النظام العالمي الجديد (الاستعمار الجديد أو الثورة الخضراء، والأتمتة والمعلومات الإلكترونية.
وبصفته مفكراً وناقداً اهتم بدراسة التحولات والتغيّرات في المجتمع الغربي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وأثرها في الأعمال الفنية والأدبية والثقافة بشكل عام لهذا يجد علاقة وثيقة وجدلية بين التحولات التي طرأت على الرأسمالية الصناعية أو التنافسية وتطور مفهوم ما بعد الحداثة،
بدأت ما بعد الحداثة من وجهة نظر جيمسون في الستينات، حيث ارتبطت بالانقطاع في الأغلب بمقولات خفوت أو اندثثار الحركة الحديثه (الحداثة) ذات المائة عام أو برفضها أيدلوجياً أو جمالياً مثل التعبيرية التجريدية في التصوير والوجودية في الفلسفة وآخر أشكال التمثيل في الرواية وأفلام المؤلفين العظام أو المدرسة الحداثية في الشعر مثل أعمال والاس ستيفنز واعتبرها آخر ازدهار للحداثة والذي أنهك وتبدد .... واستبدل على الفور بشكل امبريقي (عملي) ومختلط ومتنافر مثل آندي وارهول Andy Warhl وفن البوب PoPart والواقعي الفوتغرافية والتعبيرية الجديدة للحظة Moment خصوصاً في الموسيقى مثل أعمال جون كنج John Cage وهو خليط أساليب كلاسيكية وشعبية مثل أعمال فيل جالس Phil Glass وتيري رايلي terry Riley وموسيقى البأنكو Punk وورك الموجة الجديدة ويمثله البتلز Beatles وورك Stones وهي اللحظة الحداثية العليا من هذه التقاليد والأحداث سريعة التطور
ويحدد جيمسون صفتين أساسيتين لما بعد الحداثة وهما:
الصفة الأولى: تحول الواقع إلى صور، وثقافة الصورة تعتبر خليطاً من التصنع والتنوع النمطي وعد التجانس الذي يسبب فقد الدلالة والمعنى وموت الموضوع وموت السمة الفردية.
والصفة الثانية: تتمثَّل في تجزئة الوقت في لحظات متسلسلة حاضرة ومستمرة أو عرض دائم، ويجسد الإعلام في رأيه مفهوماً ما بعد الحداثة، فالإدراك المجزأ للعالم لدى المشاهد يقود إلى الانفصام (الشيزوفرنيا) المتمثلة في تحطم وتفتت العلاقات بين المعاني، وتحطم الوقت والذاكرة وخبرة الانفصال والتفكك وعدم التواصل وهي المسببة لتحول الواقع إلى صور والتشتت الذهني، وهذا ما نشهده ونعيشه في عصرنا الحاضر، وبشكل متزايد.
وفي مقال قادم سوف نتحدث عن خصائص ما بعد الحداثة والرأسمالية المتأخرة عند جيمسون وسيطرة الآلة على السلوك البشري.
Chmq2012 @ gmail. Com
**__**__**__**
هوامش:
- فردرك جيمسون، ما بعد الحداثة - المنطق الثقافي للرأسمالية، ترجمة أحمد حسان، 1994، مجلة الجراد. رابط موقع.
- الوكيديا العربية، رابط:
https:// ar. wikipedia. org/ wiki/ % D8 % B1 % D8 % A3 % D8 % B3 % D9 % 85 % D8 %
- ناصر العديلي، ثقافة ما بعد الحداثة والتنوير التقني، جريدة الجزيرة، 18 نوفمبر 2022، رابط https://www. al- jazirah.com/2022/20221118/cm22.htm