الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
سلوكيات كثيرة يرفضها الإسلام، ومنها التدخل في شؤون الآخرين وخصوصياتهم، لأنه سلوك لا أخلاقي ينتهجه أصحاب النفوس المريضة، الناجمة عن غيرة أو حسد.
ويؤكد ذوو الاختصاص أن المتدخلين في شؤون الآخرين يشعرون بالنقص، ويريدون لفت الأنظار إليهم.
وفي الوقت الذي نتشدق فيه بالخصوصية، نجد أن واقع الحال خلاف ذلك؛ فنجد أننا الأكثر تدخلاً في خصوصيات الآخرين الذي يؤدي إلى الشقاق والنزاع والقطيعة.
«الجزيرة» استطلعت رؤى عدد من المختصين في العلوم الشرعية والقانونية في كيفية حماية المجتمع من أصحاب النفوس المريضة؛ فماذا قالوا؟
الفضول والنصيحة
بداية يؤكد الدكتور عبدالمحسن بن عبدالله الزكري قاضي الاستئناف أن التدخل في شؤون الآخرين بين الفضول وحق النصيحة.
خلق الله سبحانه وتعالى بني آدم عليه السلام وأكرمهم بأدوات التعلم والفهم وإدراك مصالحهم وما يضرهم، وألهمهم فطرة وغريزة السعي لما يسعدهم وينفعهم، كما حذرهم سبحانه وتعالى مما يضرهم في الدنيا والآخرة فأرسل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وأنزل الكتب وهو العالم بخلقه وهو اللطيف الخبير سبحانه، وبين أن كل إنسان يتحمل تبعة ونتائج تصرفاته سواء في الدنيا أو الآخرة ولو مثقال الذرة من الخير والشر فسيحاسب عنها ويجازى بها، وقد جبلت التجمعات البشرية على وضع الضوابط والأعراف التي يحتكمون إليها بالإضافة للعقود الخاصة بين أطرافها والتي قد تتضمن التزامات أو تعفي منها، ولأن البشر يتفاوتون بطبيعتهم في الفهم والإدراك حسب التعليم والخبرات المتراكمة لدى كل منهم والتربية التي يتلقاها من المجتمع أو الأسرة فإن ذلك اقتضى حاجة كل منا للآخر في إرشاده ودلالته على الخير وتحذيره من الشر، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم هو الدين فالدين النصيحة كما هو معروف ومشهور، بل بيّن النبي صلى الله عليه وسلم حال الناس آخر الزمان وفساد تصورهم بأن يصفوا من يسعى لهم بالخير ويحذرهم من الشر بأنه فضلٌ يعني بعبارة الناس الدارجة ملقوف، وأمر كل أحد بالسعي مع الآخرين لمنع الفساد بالنهي عن المنكر، ونشر الخير والفضيلة بالأمر بالمعروف، وبيّن العلماء رحمهم الله مراتب ذلك ووسائله وضوابطه، وفي المجتمعات المدنية المعاصرة يتم تدوين ذلك على هيئة أنظمة وقوانين يمكن للعموم الاطلاع عليها والاحتكام إليها، ومنها المجتمعات المسلمة والتي تعيش بفضل الله مرحلة وعي ونهضة متسارعة وبلادنا المباركة التي تنعم بولاة أمر نشأوا وترعرعوا على قيم الإسلام وتعاليمه، وتحكِّم وتحتكم لشريعة الله الربانية المحفوظة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وتراثنا العظيم لسلفنا الصالح في العلوم المتنوعة، مما يضبط علاقة الفرد بأخيه المسلم أو غير المسلم، وينظم وسائل التوجيه والإصلاح، فالجهات الرسمية المختصة بالتعليم والتربية أو الشؤون الدينية ومعها الجمعيات والمؤسسات الأهلية للمتطوعين فيها تؤدي رسالتها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال اختصاصاتها ووسائلها، وكذا فيما يتعلق بالصحة وسلامة البيئة، ومثلها ما يتعلق بالمساكن والطرق والمزروعات والمياه وسائر شؤون الحياة لها أنظمتها وضوابطها والتي يمكن من خلالها تصحيح مسار الأفراد أو المجموعات والمؤسسات، وبالتلي فإن دور الفرد أو المؤسسة في إيصال الخير للآخرين أو ردهم عن الضرر والفساد لهم أو للمجتمع من خلال تلك الأدوات والضوابط، أو الكلمة اللطيفة الحسنة بقلب رحيم مشفق مخلص بأسلوب مناسب لا يجرح الآخرين أو يؤذي كرامتهم وحرياتهم، كما أن الحرية والكرامة لا تعني الاستهتار بالقيم والمجتمع وشريعة الله التي يؤمن بها وأنظمته التي يحتكم إليها، وبالمثال كما قيل يتضح المقال، فمنكر بيع السلع المغشوشة أو الضارة يمكن إزالته بحسب نوعه وحاله وتوجد لدينا من الجهات المختصة من يتولى إيقاع الغرامات وفرض إزالة الضار، ومنكر إلقاء النفايات في الطرق أو المتنزهات أو إيذاء المارة بالوقوف الخاطئ ونحوه، أو اللباس الذي يكشف السوءات ولا يستر العورات ولا يليق بمجتمعنا وآدابه وغير ذلك من التصرفات يمكن تغييره من خلال القنوات المختصة بذلك، والسرد يطول، والعاقل يدرك المقصود، ويكفينا ما أدبنا الله به في سورة الحجرات وتسمى سورة الأخلاق في النهي عن التحسس والتجسس وسوء الظن وإيذاء الناس بالهمز واللمز وغيره، وكل القرآن الكريم يعتبر بناءً للأخلاق والقيم وصدق من قال عن حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: كان خلقه القرآن. بالحق والعدل بين الغالي فيه والجافي عنه، والله الهادي، والموفق لسواء السبيل.
مراقبة الآخرين
وتشير الدكتورة حنان بنت عوض العمراني المستشار التربوي والأسري إلى أنه مع تزايد وسائل التواصل الاجتماعي أصبح من السهل مراقبة أحوال الآخرين ومتابعة أخبارهم، بل وصل الأمر أحياناً إلى التدخل في شؤونهم وإطلاق الأحكام عليهم والتحكم في اختياراتهم بذريعة النصح وإبداء الرأي.
وهذا الأمر يعد من باب التطفل وإزعاج الآخرين وقد نهى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه). فعليك بخاصة نفسك ودع عنك مراقبة العامة وانشغل بإصلاح ذاتك وتهذيبها.
ولعل من الأمور المعينة على تجنب هذا الخلق السيئ ملء وقت الفراغ بما ينفع، والتركيز على النفس وعيش الحياة بنظرة متفائلة ترى الخير في كل شيء، وتتسامى عن مراقبة غيرها، مشددة على التذكر دائماً وأنت تشير إلى الآخرين بأصبعك أن هناك ثلاثة أصابع تشير إليك.
العادة المذمومة
وتوضح الدكتورة هدى بنت دليجان الدليجان أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الملك فيصل بالأحساء: أن من الأمور المهمة أن الإنسان مدني بطبعه، وهو كائن يألف ويؤلف.
عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المُؤمِنُ يألَفُ ويُؤلَفُ ولا خيرَ فيمَنْ لا يألَفُ ولا يُؤلَفُ وخيرُ النَّاسِ أنفَعُهم للنَّاسِ) أخرجه الطبراني، وقال عنه المحقق: صحيح.
وفي خصم رحلة الحياة تمر علاقات الإنسان مع مجتمعه ومع من حوله في بيته وأسرته وأقاربه وأصدقائه وزملاء عمله بمزيد من الاختبارات بين مايقوي العلاقة من الود والألفة والاحترام وكتم الأسرار والعمل البناء لبلوغ أهداف كريمة لبناء مجتمع صالح وقويم، وبين سرعة الغضب والنقد وتقطيع العلاقات بسبب الخصومات لأسباب كثيرة.
ومن أشد الخصومات تأثيراً وقطعاً للعلاقات هي الانتقاص لكل فعل والتدخل في شؤون الآخرين، وكثرة النقد على كل صغيرة وكبيرة، وهذه العادة المذمومة تورث بؤساً في العلاقة وتضرب في أطناب الود والتراحم إلى أن توشك على زوالها وأفول شمسها ولو كان مقرباً كأقرب قريب كأخت وأخ وصديق وذوي رحم.
ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وكشف أستار البيوت في الصباح والمساء وفي الفرح والحزن.. تداعت كثير من العلاقات وتضعضعت القلوب بسبب ما تؤول إليه بعض الرسائل من التدخل المذموم أو النقد الهدام وهذا ينذر بشر كبير على بنيان المجتمع وتوطيد أواصر الود ونشر البهجة والسعادة.
فالحذر من هذا الفعل الشنيع وإن كان صغيراً بلفتة أو نظرة أو كلمة أو رسالة أو صورة والتي تسبب الداء الوبيل من الشقاق وسوء الأخلاق في المجتمع.
ثرثرة ونقل الكلام
ويقول الدكتور خالد بن محمد السرحان أستاذ علم الاجتماع: أبذل مجهوداً في إصلاح ذاتك بدلاً من التدخل في شؤون الآخرين الكثير من الناس لم يأخذوا بالموعظة على الرغم من بساطتها إلا أنها تجنب الفرد الكثير من المشاكل التي يسببها هذا النوع من الفضوليين، مشدداً على أن التدخل في شؤون الآخرين وخصوصياتهم هو سلوك لا أخلاقي منتشر في المجتمع بقصد تصيد أخطاء الآخرين أو إزعاجهم واستفزازهم، ومن يقوم بهذا السلوك هو شخص يعاني من اضطرابات نفسية واجتماعية غير سوية، وانتهازي وقلق وساذج أحياناً، ويعاني من فراغ في حياته ولديه نوع من حب التسلط والسيطرة ويتصف بالثرثرة ونقل الكلام والإفساد بين الناس لأنه يعاني من النقص في حاجته إلى تقدير المجتمع له لافتقاده الأمن النفسي مهما حاول بالظهور بالمظهر الجيد أمام الآخرين.
وقد يكون انشغال الفرد بعيوب الناس، والتحدث بها بمنزلة ورقة التوت، التي يحاول أن يغطي بها عيوبه، وسوءاته، فقد سَمِعَ أعرابيٌّ رجلاً يقع في الناس، فقال: (قد استدللت على عيوبك؛ بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها؛ يطلبها بقدر ما فيه منها)، فأكثر الناس عيوباً، أفرغُهم لذكر عيوب الآخرين، ويمكننا التعامل مع الناس المتطفلين بتوجيههم من خلال معرفة المساحات النفسية المسموح الدخول فيها مع الآخرين أي تعريفهم بحدودهم سواء على مستوى حياتهم العامة أو الخاصة والتي لا يجوز اقتحامها وتدريبهم على هذه المهارات، فنحن مجتمع تحكمنا منظومة أخلاقية نعتز بها تنبع من ديننا وعاداتنا وتقاليدنا، ولسنا من المجتمعات التي تتبع عورات الناس وزلاتهم أو تتصيد أخطاءهم، فكلنا خطاء وخير الخطائين التوابون، فالعاقل من شغلته عيوبه عن رؤية عيوب الناس.. فلا تنهَ عن خلق وتأتي مثله.. عار عليك إذا فعلت عظيم.