أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
تتطلب التنمية الوطنية بمفهومها الشامل وشقيها الطبيعي والبشري عملاً موضوعياً منهجياً منظومياً مدروساً مشتركاً راجع التغذية طويل الأجل قابل التنفيذ في شتى مجالات الحياة العقلانية الرشيدة الحكيمة، والاقتصادية المنظورية الوثابة، والاستثمارية المتجددة الطموحة. هذا بالإضافة إلى قابلية تنفيذ خطط التنمية الوطنية ذات البرامج المتعددة الغايات والاتجاهات في مجالات تنموية حيوية فاعلة غير التي سلف ذكرها أعلاه كالتعليمية المعرفية النهضوية، والصحية الدقيقة المتخصصة، والاجتماعية الواعية المتحفزة، والسكانية الديموغرافية المتوازنة، والبيئية الحياتية المستدامة. ولعل من أولى أولويات اهتمامات هذا النوع من التنمية ابتداء هو توفير العيش الكريم لأفراد المجتمع وضمان حقوقهم المشروعة وأمنهم وسلامتهم واستقرارهم المستدام. كما تُعنى التنمية الوطنية باستثمار الموارد والطاقات الطبيعية والبشرية، وتسخيرها في تطوير البنى التحتية وفق أفضل المعايير العلمية العالمية الراجحة، واتخاذ أنسب السبل لتنمية تلك الموارد والطاقات واستدامتها. ويُعنى هذا النوع من التنمية أيضاً بترسيخ الهيئات النماذجية التي تحاكي أنسب فرص المواكبة لمستجدات العصر العلمية والتقنية من ناحية، وإسقاط نتائج محاكاة تلك الهيئات على واقع الحال التنموي المقيس بعد إجراء الاختبارات المعيارية اللازمة لتلك الاسقاطات والتأكد من مدى مطابقتها للوقائع المرئية من ناحية أخرى. إضافة إلى ما سبق، تسعى التنمية الوطنية إلى خلق بيئة نخبوية ناضجة واعية حافزة للتنميط الأمثل للنظم الجيوستراتيجية، والاقتصادية، والاستثمارية، والمعرفية المجتمعية وما ينضاف إليها بالشكل الذي يرسخ أسمى ظروف الرفاه والاستقرار والتمكين الوطني. ولا يغفل هذا النوع من التنمية بالضرورة أيضاً تطوير الخدمات المؤسساتية المدنية وتعزيزها، وتحقيق فرص مشاركة المجتمع المدني من خلال النخب المجتمعية، وأصحاب الدربة، والكفاءة، والخبرة في صنع القرار الاقتصادي، والجيوستراتيجي، والتعليمي، والاجتماعي، والصحي المتعدد الأهداف والتوجهات والأنماط.
إضافة إلى ما سبق ذكره آنفاً، من الضروري التأكيد في هذا الصدد إلى حقيقة مهمة هي أن قضايا التنمية بمختلف غاياتها ومستوياتها وتوجهاتها لن تتحقق على أرض الواقع إلاَّ من خلال المتابعة الدقيقة، والمراجعة المستمرة، والتقييم الدوري الصارم للمؤشرات التنموية كالناتجين الإجماليين المحلي والقومي ونصيب الفرد منهما، ومعدلات الأمية، ومتوسط إعمار أفراد المجتمع ومعدلات خصوبتهم ووفياتهم. كما أنه من غير الممكن تحقيق التنمية الوطنية بمفهومها الشامل وبشقيها الطبيعي والبشري دونما الربط التعليمي والبحثي والتدريبي الوشيج المستدام بين أطر الثقافتين الطبيعية والإنسانية المدعومتين بالفكر الشرعي المعتدل الرشيد الموجه لطبيعة ذلك الربط وما يقتضيه من انفتاح حكيم المراس على خبرة الآخر ودربته وتمكين الأمة من أحدث تقنيات العصر وما يقترن بتلك التقنيات من خطط مدروسة داعمة لتوطينها ولمسارها المستقبلي وديمومة ذلك المسار وتطوره عبر الزمن. والواقع أن مراجعة مؤشرات التنمية الوطنية الآنف ذكرها وتقييمها دورياً يقتضي بكل تأكيد تحقيق عدد من الشروط وانتفاء مجموعة من الموانع التي يعد حصرها ومتابعتها صمام أمان لتبني تنمية وطنية مثلى وتنفيذها وفق الأهداف المرجوة وقيود الجدولة الزمكانية لخططها المرسومة والمجالات المستهدفة وطنياً. ولعل أول تلك الشروط وأهمها نشر الثقافة العلمية الطبيعية والإنسانية بين أفراد المجتمع وتمكينهم منها بالشكل الذي يهيئ لهم بيئة ناضجة واعية تؤهلهم من ممارسة أدوارٍ فاعلةٍ عبر دروب التنمية بمساقاتها المتنوعة ودهاليزها الممتدة فيما وراء أطيافها الزمكانية. وأقصد بالثقافة العلمية في هذا الصدد الإطار المعرفي الواسع الذي يشمل العلوم الأساسية الطبيعية والاجتماعية والإنسانية المختلفة وما يقترن بها من تقنيات ضرورية لتجويد الأبعاد التطبيقية لتلك العلوم جميعًا، وتوطين دورها الفاعل في مختلف مجالات التنمية وتوجهاتها وأنماطها المتجددة عبر مختلف وتائر الحياة ودروبها.
لا شك أن هذا الأمر إذا تحقق بنجاح- حسب ما هو منوه عنه أعلاه- سيقود بالضرورة إلى اشتقاق التعميمات المنهجية الاستقراء استنباطية الاستدلالية النظرية والتجريبية والاستردادية التي من المتوقع أن تشف بوضوح قوة العلاقة بين الثقافة العلمية والتنمية الوطنية، وتعكس اتجاه تلك العلاقة وأسطح نزوعها التي تكون في أغلب أحوالها المثلى طردية عالية في قوة درجات ارتباطاتها خصوصًا إذا اقترنت تلك الارتباطات بأفضل درجات الحرية الإحصائية وأنسب مستويات التحديد الرقمي النسبوي الاختباري المبدأ الذي بموجبه يفسر أعلى تعاظم ممكن لفرص التباين التحددية للمعلومات التي اشتقت منها تلك الارتباطات.
ولهذا فمن المفترض بطبيعة الحال ومجرى العادة أن تفرز الخطط التنموية، التي تبلغ ذلك الحد من التحرير الرقمي النوعي والتحددية الإحصائية القصوى، برامج تواكب أحدث تقنيات مجتمع اقتصاد المعرفة وتتخذ كل السبل لعصرنة ثقافة ذلك المجتمع وتقنياته، وتوفير وسائل استدامة عصرنته، وتجديد أدوات تلك الاستدامة الحيوية الفاعلة. وفي هذا الصدد لابد من الإشارة إلى أن بعض الدراسات - كالتي أجراها بدران عام 1988 للميلاد - أثبتت أن الثقافة العلمية بمختلف تقنياتها تسهم في زيادة الإنتاج بنسبة تصل إلى 90 %، بينما تؤدي الزيادة في رأس المال إلى نمو الإنتاج بما يوازي 10 % فقط. ويعود السبب في هذا الأمر -في رأيي- إلى استناد الثقافة العلمية في أمثل حالاتها التقنية الحدية إلى أسس من المضامين المعرفية وطرائق التفكير المنهجي التي يمكن بموجبهما تَحَوُلُ الرؤى، والأفكار والمفاهيم، والنظريات عبر خطط مدروسة إلى واقع منظوري ملموس مقيس يسمح لتلك المضامين المعرفية والأطر المنهجية أن تحتل القدر الأكبر من مجالات الطيف الفكري الفلسفي المصطلحي التطبيقي الذي يعرف اليوم بـ»مجتمع اقتصاد المعرفة» العصب الرئيس للتنمية الوطنية الفاعلة في هذا العصر وغايتها النهائية المنشودة.