د.محمد بن عبدالرحمن البشر
محمد الصغير الافراني عالم ومؤلف ولد في مدينة مراكش عام ألف وثمانين هجرية، وأصله من منطقة سوس بالمغرب، وسوس مدينة يتكلم أهلها اللغة الأمازيغية، بالإضافة إلى العربية، ولهذا فيعتبر أهلها من البربر، حتى وإن كان أصل بعضهم عربياً، وهذا واقع حتى يومنا هذا، فأعرف بعضاً من أهل سوس تظهر شجرة عائلتهم أصولهم العربية، لكنهم يتكلمون الأمازيغية، وينسبون أنفسهم إلى البربر، وقد أنجبت سوس الكثير من العلماء الذين ساهموا مساهمة كبيرة في علوم شتى، لاسيما العلوم الشرعية واللغة العربية، كما أن أهلها اشتهروا بالتجارة، وحسن التدبير، ومنهم الكثير من رجال الأعمال، والافراني ينتمي إلى قبيلة يفرن ذات الانتماء البربري، وإن كان بعضٌ من فروعها لهم أصول عربية، وهناك من يقول إن العالم محمد الصغير الافراني من فرع عربي، وأنه من منطقة أفرن الواقعة في سوس، وسكانها من أصول عربية، وأياً كان أصله فالعرب والبربر عاشوا إخوة عبر التاريخ، لا فرق إطلاقاً بينهم، وإنما يذكر ذلك انتساباً فقط، كما ينتسب المرء إلى أسرته.
يقول الافراني في أرجوزته:
يقول اخوف الورى مما اكتسب
محمد الصغير يفراني النسب
وهناك من نسخها إفراني النسب، وفي ظني أن يفراني أقرب إلى الصواب، فهي توضح انتماءه، كما أنها أجود وأيسر في بناء البيت.
غادر والده إلى مراكش، وبها ولد وعاش وتعلم على يد علماء عصره، مثل أحمد المرسي، لكن حبه للعلم جعله يغادر مراكش إلى فاس، وهناك تعلم، وأخذ إجازة من شيخه أحمد الفاسي، كما تعلم على يد العالم أحمد الحلبي، ويبدو أنه عمل في قصر السلطان إسماعيل العلوي، ووثق تاريخ حكمه والفترة التي سبقته، كما ذكر سيرة بعض النجباء من أبنائه، وعلى ذكر ذلك، فإن السلطان إسماعيل كان من أبرز سلاطين العلويين، وسطرت عنه العجائب، وقد حكم خمسة وخمسين عاماً، وهي أطول مدة حكمها سلطان علوي، ويقال إنه ترك ألفاً ومائة وواحداً وسبعين ابناً وابنة، أنجبهم من عدد من الزوجات، وخمسمائة محظية، وكان نشاطه استثنائياً، وهو من جلب المقاتلين من إفريقيا لحمايته، والدفاع عن دولته، ويقال لهم البخاري. كما يقال إنه جبار قتل الكثير، والله أعلم بالحقيقة، والافراني يميل إلى التصوف، ولاشك أن التصوف محمود إذا خلا من البدع المصاحبة لبعض الطرق.
وقد تصدر للتدريس في مراكش وأقبل عليه الناس لغزارة علمه، وحيويته، وشبابه، وتواضعه، ومرحه، لكن ذلك كان مدعاة لزرع الحسد والغيرة في بعض نفوس معاصريه، مستكثرين كثرة الإقبال عليه رغم صغر سنه، فرموه بالزندقة، وشكوه إلى القاضي محمد بن أحمد، الذي عقد مجالس مناظرة مدة طويلة، فلم يتبين صحة ما ذكروه، فزاد عدد مريديه، والطامعين في النهل من معين علمه، فكبر شأنه وكان متوسعاً في علومه مثل التفسير، والطب، والفلك، والفقه، والحديث، لكن فيما يبدو أنه اقتصر فيما بعد على الفقه والحديث لاسيما صحيح البخاري.
وكما نعلم فإن من طبائع الدنيا أنها لا تدوم على حال، وهي بين إدبار وإقبال، ويظهر أن الافراني قد تعرض لنكبة من نكبات الدهر المعتادة، ففقد ماله، أو صودر، وضاقت به الحال، وغادر مراكش هائماً، فنراه في زاوية أبو جعد الصوفية، ثم الزاوية الشرقاوية، وقد أقام في ضيافة شيخ الزاوية محمد المغطي بن محمد الصالح، ونقل عنه بعض المدائح النبوية، كما أن التاريخ قد حفظ لنا بعض المراسلات بينهما، وقد بث شكواه في تآليفه وشعره، وبين ذلك في كتابه نزهة الحادي، حيث قال (ولقد حلت بي المصيبة الفادحة، التي هي في عرض الدين قادحة)، كما بث حزنه وألمه ومعاناته في شعره حيث قال:
إلى كم يهتك الحساد عرضي
وجفني عنهم بالحلم مغض
وما ذنبي إليهم غير أني
رفعت عليهم من غير خفض
ويقول أيضاً:
فكنت بداري مولعاً بابن مالك
ولي همة في كل فن مسطر
فاخرجت منها مكرها دون بغيتي
بأمر علي لا يرد مقدر
ويلاحظ أن شعره ليس به جزالة، فربما أن هذا ليس ميدان تفوقه وكماله، لكن الشعر من أفضل الساحات التي يبث من خلالها الشجن، وهو الذي تتوارى بين مفرداته المحن.
والافراني ليس وحيد زمانه، ولا سابق أمثاله وأقرانه، فقد علمنا التاريخ أن الدنيا لا تدوم على حال لها شأن، فلنا في مروان الحمار عبرة، وفي أبي مسلم الخراساني تدبراً ونظرة، وفيما حل بالبرامكة دلالة على قسوة الدهر، وغدر الأيام بالأنام كغدر البحر، ومرة أخرى جادت له الأيام، فنراه في مراكش مرة أخرى إماماً، يؤم بجمع من الأنام، منهم السعيد بعودته، والمغتاظ من رجعته، وعطاء الرحمن لا يرده حاسد، ولا يمنعه حاقد.