د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
لما انتهى الحديث عن الإعراب وابن هشام في كتاب النحوي القدير الأستاذ الدكتور/ محمد عبدو فلفل (المعنى في النحو العربي بين الوفاء لوظيفة اللغة وإكراهات الصنعة النحوية) أورد جملة من أقوال بعض المحدثين يمكن أن نجعلها بعنوان (الإعراب والمعنى عند بعض المحدثين).
أورد الأستاذ قول خليل أحمد عمايرة في كتابه (المسافة بين التنظير النحوي والتطبيق اللغوي) عن تعدد أعاريب اللفظ الواحد في كتب إعراب القرآن، وهو تعدد يؤدي إلى تعدد الدلالة، وهو عكس لمقولة (الإعراب فرع على المعنى)، ويرى العمايرة أن هذا بسبب نظرية العامل.
ووصف أستاذنا قول العمايرة بأنه احتجاج له ما يسوغه عند صاحبه الذي ضاق ذرعًا بتحكم نظرية العامل بالتحليل النحوي الإعرابي، وإن كان ذلك على حساب وضوح المعنى، ثمّ بين أن هذا الاتجاه له ما يناظره عند آخرين من المحدثين.
بدأ بقول محمد الأنطاكي الذي لا يرى وجوب إخضاع كل نصوص العربية لمقولات النحويين، لأن اللغة في نموها وتطورها تنتج من أنماط التعبير ما يخالف المألوف من تعابير اللغة، من ذلك نمط التعجب في مثل (ما أجملَ الربيعَ)، فهذه الجملة «لا يمكن أن نميز فيها فاعلًا من مفعول، ولا مبتدأ من خبر، ولا شيئًا من الأبواب النحوية... وقل مثل هذا في أساليب النداء والمدح والذم وغيرها. وأمثال هذه الأساليب الشاذة في بنائها الغريبة في تصميمها موجودة في كل اللغات، وهي أساليب تندُّ دائمًا عن كلّ تحليل أو إعراب، وقد حلَّ نحاة اللغات الأخرى مشكلتها بالقول: إنها أساليب خاصة، تحفظ، وتحتذى، ولا تحلل. ولو قد فعل نحاتنا فعل غيرهم لأراحوا واستراحوا» (ص97، ونص الأنطاكي في: المحيط في أصوات العربية ونحوها وصرفها، 1/ 297).
وذكر مأخذ فاضل صالح السامرائي على النحويين أنهم حرصوا على إعراب كل ما سمعوه وإن أدّى ذلك إلى تكلف يفسد المعنى ويخل بالذوق، ويرى «أنه لا داعي لإعراب كل تعبير، فهناك تعبيرات لا داعي لإعرابها، بل يكتفى بوصفها» (ص98، والنص من معاني النحو، 4/ 239).
وإلى ملحوظات بعض المحدثين الصادقة يرى أن الإعراب غير كاف في تحليل الجملة ولا يبين غرضها تبيينًا شافيًا، وهو بحاجة إلى ما يسعده في بيان مقاصد المتكلمين، وهذا من اهتمام المعالجة التداولية للغة، «فعبارة (لا فضَّ فوك) مثلًا لا يجدي في فهم قصد المتكلم منها أن يقال: إن (لا) نافية مهملة، وإن (فُضَّ) ماض مبني للمجهول، وإنّ (فوك) نائب فاعل، بل لا بد من التنبيه على أن العبارة دعائية، يدعو فيها المتكلم للمتلقي بأن يبقى فمه عامرًا بكل ما يساعده على التفوه بما استحسنه ويستحسنه المتكلم من كلام المتلقي»(ص 100)، وعرض لمثال آخر هو (الجوّ حارّ جدًّا) مبينًا المقاصد المختلفة التي تحتملها الجملة، وأن الإعراب وحده لا يبينها، والنحويون لا يزعمون أن إعراب أي جملة يفصح عن مقصد المتكلم؛ لأن هذا ليس غرض الإعراب، أما التنبيه إلى أن الجملة دعائية أو غير دعائية أو بيان مقصد فمرده إلى السياق الذي ترد فيه، وقد قرر ذلك أستاذنا تقريرًا لا مزيد عليه، قال «ولا شك أن هذه المعاني ليس بمقدور التحليل الإعرابي وحده الكشف عنها، ولابد من الاستعانة في ذلك بمعارف نحوية أو بلاغية أخرى معنية بالكشف ليس عن المعنى فقط، بل بالكشف عن معنى المعنى، أو المعاني الثواني والثوالث، وهو ما عُنِيَتْ به من قبل جهود أئمة البلاغة العربية والمفسرين ... كما تُعْنى به في العصر الحديث ما يعرف بالتداولية»(ص 101).
وأودّ الإشارة إلى المحاولة الجريئة التي تجعل الإعراب فرعًا على المعنى بتجاوز المسلمات النحوية، وهي محاولة أستاذنا عبدالقادر المهيري في كتابه (نظرات في التراث اللغوي)، وننقل مثالًا تطبيقيًّا للأعراب كما ورد عنده (ص51)، ففي جملة (إنَّ الزائرَ وصلَ) يعرب (الزائرَ) بأنه «فاعل بدئ به منصوب بإنّ»، و(وصل) «فعل مطابق لفاعله»، وفي جملة (الزائرُ أخذتُ حقيبتَه)، يعرب (الزائرُ) بأنه «مضاف إليه بدئ به مرفوع»، و(أخذت) «فعل مسند إلى المتكلم»، و(حقيبته) «مفعول به مضاف»، و(ه) «ضمير رابط بين المضاف والمضاف إليه». ونلاحظ في صنيع المهيري فكًّا للارتباط بين الوظيفة النحوية والعلامة الإعرابية، فالفاعل قد يكون مرفوعًا أو منصوبًا، والمضاف إليه قد يكون مجرورًا أو مرفوعًا أو منصوبًا، ونرى أن الرتبة لم تراع؛ فالفاعل قد يتأخر عن فعله وقد يتقدم والمضاف إليه قد يتأخر عن المضاف وقد يتقدم. ولذلك تكون جملة (زيدٌ جاء) فعلية مثل جملة (جاء زيدٌ). وجملة مثل (عيسى أكرمته) لا يحتمل (عيسى) إعرابين كما يقدر النحويون: الرفع على الابتداء، أو النصب بفعل مقدر قبله؛ إذ على طريقة المهيري (عيسى) مفعول به فقط.