محمد خير البقاعي
كانت الرياض قبل أن أصل إليها في عام 1417 هج/1996م عاصمة دولة تهفو إليها قلوب المسلمين في أنحاء الدنيا وقلوب المحيطين بي من والدة ووالد وأقربين ومعارف كما كان يردد والدي الحاج محمود مصطفى البقاعي (1914-1998م) يرحمه الله، الذي حج البيت مرتين بالسيارة وأصبحت أحاديث حجه فاكهة السمر في ليالي السهر صيفاً وشتاءً لي ولمن كانوا يغشون مجلسه الذي كان يعبق برائحة القهوة العربية السوداء وأحاديث الحج التي تحمل من لم يحجوا على جناح الخيال إلى المكان والزمان.
كنت مستمعاً أدير فناجين القهوة التي كان يقوم الوالد بنفسه على تهيئتها والاطمئنان على طعمها ونظافة أوانيها. كان الحديث ممتعاً ويحمل كل أطايب التفكير البسيط العروبي الذي يقطر حباً ويفيض احتراماً للقائمين على خدمة الحرمين منذ انبلاج فجر المملكة العربية السعودية بكفاح المغفور له الملك عبد العزيز ( ابن سعود) كما كان يتردد في المسامرات. ومرت السنون ووجد ذلك الفتى المستمع إلى الحديث وهو يقهوي السامرين، وجد نفسه يهبط في مطار عاصمة بلاد الحرمين متعاقداً مع قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة الملك سعود بعد رحلة دراسية استمرّت ست سنوات اقتضتها دراسته في جامعة دمشق (1976-1982م) للحصول على ما يسمى دبلوم الدراسات العليا وسنة في الماجستير الذي لم ينهه للالتحاق ببعثة إلى فرنسا استغرقت تسع سنوات ( 1983-1992م) ثم قضى أربع سنوات مدرساً في جامعة حمص حتى (1996م) عندما تلقى عرضاً للتعاقد مع جامعة الملك سعود فلم يتردد لحظة في الرد بالقبول.
كان إنجاز معاملة التعاقد الأولى في دمشق فرصة للقاء الملحق الثقافي السعودي في دمشق آنذاك الأديب الشاعر النبيل والدبلوماسي المحنك ابن الدلم وسليل أسرة العلم والفضل الأستاذ خالد بن محمد الخنين يحفظه الله. رافقت إلى مكتبه في حي أبي رمانة الصديق الرائد عبد الرحمن بن فيصل المعمر، وأذكر أني أهديته حينئذٍ كتابي المترجم بالاشتراك (القرآن والعلم المعاصر للطبيب الفرنسي موريس بوكاي، دار ملهم حمص 1995م)، وبعد إتمام ذلك بأيام حطت بي طائرة الخطوط الجوية السعودية في مطار الرياض يوم (15/ 9/ 1996م -1417/5/3 هج. ). وكان في استقبالي الصديق النحوي الكريم النبيل الأستاذ الدكتور أحمد مطر العطية الخالدي الذي أصر على استضافتي في منزله العامر حتى تيسر استئجار شقيقة في طريق الملك عبد الله قرب الجامعة وتأسيسها. كان في رئاسة قسم اللغة العربية وآدابها في الجامعة الأم، صاحب المراسلة والعرض والموافقة البرفسور حمزة قبلان المزيني اللساني والمتمكن من فنه الشجاع في الحق يحفظه الله. كنت أتلقى مراسلاته قبل قدومي وأنست وتشرفت بلقائه ويسر لي كل أمور الإدارة والاستقرار. كان القسم يعج بالقامات العلمية على مستوى المملكة والعالم العربي وعلى رأسهم رجل الفكر والنقد والنظرية أستاذ الجيل عبد الله بن محمد الغذامي الذي طبقت شهرته الآفاق حينئذٍ بكتابه المؤسس (الخطيئة والتكفير). وكان فيما أخبرني في أول لقاء أنه كان قد أوصى بالتعاقد معي بعد قراءة بحث لي مترجم عن التناصية نشرته مجلة «علامات». التي تصدر عن نادي جدة الأدبي، نشرته إبّان رئاسة أحد رواد الحركة الثقافية التاريخيين في المملكة الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين (1925-2019م)رحمه الله وما زلت أذكر حديثه حينئذٍ عن العمل المضني في البحث عن المصطلح وشرحه في المقالة المذكورة.
كانت كوكبة العلماء الذين قرأت أسماءهم على واجهات مكاتبهم وغبطت نفسي أن أكون في صحبتهم وعقدت العزم على التعلم منهم كان أولهم معالي الدكتور أحمد الضبيب الذي كان مديراً للجامعة وأدركته بعد مدة رئاسته استضافني مع جمع من الأصدقاء في مزرعته وكان اللقاء تراثياً تعلمت منه الكثير من أخلاقه السامية وعلمه وفكره الناصع في مجلسه العامر في بيته. كان في القسم أستاذ تراثي واسع الآفاق رضي النفس قال عندما سلمت عليه وذكرت اسمي ما شاء الله كنت أظنك في مثل عمرنا وكان قد اطلع على بعض ما أصدرته من كتب إنه الأستاذ الدكتور ناصر بن سعد الرشيد التراثي والراوية ذو البراعة في جمع أطراف الأحاديث. وكانت لحظة لقائي بالأستاذ الدكتور عبد العزيز ناصر المانع بتاريخه التراثي الحافل وشخصيته المتفردة تحقيقاً لرغبة راودتني منذ وصلت إلى القسم. ولم تكن الرغبة أقل في لقائي بالدكتور محمد بن عبد الرحمن الهدلق برصانته وغزارة علمه وبعد نظره وهي صفات تجعل من لا يعرف انتصاره للحق يظن فيه بعض الجفاء عرفته زميلاً وعميداً لكلية الآداب.
وإن كنت أنسى لا أنس طرازاً نادراً من الأصدقاء الدكاترة الذين كان لهم طبائع مميزة منهجياً وعلمياً ولكنهم يعزفون عن الكتابة والتأليف وعلى رأسهم الصديق الدكتور فهد سنبل الذي كان ذا بصيرة وبصر في النظر إلى الأمور ولا يفرج عن رأي أو فكرة بلا تمحيص وتقليب الأمور على كل أوجهها. أما الصديق اللغوي المتضلع من علوم العربية تأصيلاً وتفصيلاً البروفسور أبو أوس إبراهيم الشمسان فهو من العلماء العاملين بعلمهم أستاذ يقترب من طلابه عطفاً ومعاملة ويبتعد بهم فهماً وعلماً ولا يحب أن يخذلوه في شيء من ذلك ولا أدري لمَ، وقد كتبت ذلك عنه، إنه يذكرني بأبي عمرو بن العلاء. وكان قريباً منه أستاذ فقده القسم لأداء مهمة جليلة الأستاذ الدكتور صالح الوهيبي الذي عرفته صادحاً بالحق عميقاً في علمه. وإن ذكرت فأذكر رجل العلم والرأفة وحمل هموم الطلاب والحرص على تشجيعهم ودفعهم وفي كثير من الأحايين مساعدتهم لبلوغ غاياتهم التعليمية مع حرصه على تعليمهم ما يرتقي بلغتهم وفكرهم: صديقنا الدكتور صالح العمير. أما صديقنا الشهم النبيل الكريم صاحب العلم النافع الراسي، القريب من النفوس بأريحيّته وتفرده في وجهات نظر تعبر عن ملامح شخصيته وعن إبحاره الفكري في عالم الإبداع بعيداً عن الاتباع: الأستاذ الدكتور مرزوق بن تنباك، وبذكره نستدعي من الذاكرة رفيق دربه وصديقه الملازم البروفسور عوض القوزي صاحب التحقيقات الراسخة والعلم المبذول والمروءة المذكورة يشهد بها كل من عرفوه. أما الأستاذ الذي يكفيك أن تراه مرة كي لا تنساه البروفسور منصور الحازمي يحفظه الله فهو من يملأ الكون حوله علماً يتسرب إلى النفوس ببهجة مقروناً بدعابة لا تغيب ولا تمس طرافتها بحزمه الحازمي الجميل.
وقد عادت بي الذاكرة قبل أيام من كتابة هذه الشذرة إلى رجل كان في غاية الشهامة والود لم أحظ بلقائه طويلاً ولكن أدبه وأريحيته دفعاه يوماً إلى المرور بمكتبي يحمل ترجمته المخطوطة لكتاب أمبرتو إيكو ( ست جولات في الغابة القصصية (1998م) طالباً مني بكل لياقة ولباقة أن أقرأ الترجمة قبل نشرها وقد فعلت وكان لنا في مكتبي جلسة عدنا بها إلى مواضع التعاليق وأثبت منها ما وجده مناسباً رحمه الله إنه الدكتور محمد منصور أبا حسين ( 1948-2007م) وقد اخترمت المنية بفقده رجل أدب وعلم. وذكراه تستدعي ذكر صديقه والرجل النديم كما سميته: إنه الدكتور سعود الرحيلي أستاذ الأدب القديم بطبعه المتحفظ المسكون باحترام الناس وتوجهاتهم.
مازال في الجعبة كثير من أسماء الأساتذة الذين كان لكاتب هذه السطور شرف زمالتهم من السعوديين من جامعة الملك سعود وغيرها مما يؤرخ لربع قرن من تاريخ الثقافة والفكر في المملكة العربية السعودية. ولن تخلو هذه الشذرات من ذكر الإخوة العرب وغيرهم من الغربيين الذين أسعدني اللقاء بهم. ستنقل هذه الشذرات للقارئ الكريم حديثاً صادقاً عن شخصياتهم وأحوالهم العلمية بكل الصدق وبأوجز عبارة. ولن تخلو الشذرات من ذكر زميلات فاضلات كان لهن حضور علمي وإنساني أسس لما تسميه الرؤية المباركة تمكين المرأة على النهج القويم. وليس في ترتيب أسماء من نذكرهم أي مفاضلة، وليس ما نذكره تقويماً فأنا أعجز من يقوم بذلك. فالجميع. في السواد من حبة القلب وإلى أسبوع قادم بعون الله.