د. حصة المفرج
(أوراق اللوز) رواية صدرت عن دار أدب ضمن مبادرة (100 كتاب) في مرحلتها الأولى، وفي فرع الأدب؛ إذ عنيت المبادرة بفروع كثيرة منها: النقد، الفلسفة، اللغة، علم الاجتماع، التاريخ وغيرها. ولعل ما يميز هذه الإصدارات المتنوعة وجود هوية بصرية للمبادرة اتضحت في طريقة تصميم الأغلفة، وانتقاء اللوحات التشكيلية، وآلية كتابة العناوين، وأسماء المؤلفين، وغيرها من المؤشرات الكتابية والبصرية الأخرى.
تشكل العتبات وجهة قرائية مهمة؛ لما لها من دور في الدخول إلى العوالم السردية، واستنطاق مكوناتها الظاهرة منها والمخبوءة؛ ذلك أن توسيع مفهوم النصية قاد إلى الاهتمام بنصوص موازية للنص الأصل، وعدها منطلقًا مهمًا من منطلقات قراءته.
ويشكل العنوان ومعه لوحة الغلاف عتبتين مهمتين تثيران انتباه القارئ، وتحفزان على اقتناء الكتاب ثم قراءته؛ بالنظر إلى وظيفتهما الإشهارية التي تمارس سلطتها على المتلقي أولا، وما يتبعها من وظائف أخرى تقترن بالقراءة الفعلية للكتاب، تتنوع بين الوظائف الدلالية، والتداولية، والفنية.
والعنوان في قيامه على التركيب الإضافي، يكسب الجزء الأول منه التخصيص وتحديد المقصود؛ إذ نفترض وجود الأوراق في الأشجار عمومًا، لكن تقييده بشجرة اللوز منحته بعدًا دلاليًا مختلفًا سينعكس على أحداث الرواية وشخصياتها. وقد تحمل الأوراق دلالة أخرى ترتبط بالكتابة والمكتوب، ولعل هذه الدلالة الثانية لم تكن بعيدة عن عوالم النص الذي يحتفي بالكتابة، والأوراق، والملفات المكتوبة، والرسائل في أكثر من موضع؛ مما يوحي بتجانس أوراق الشجر مع أوراق الكتابة؛ فكلاهما صانعان للحياة، فكما تعتمد الشجرة على أوراقها لتبقى حية، تظلل أوراق الكتابة حياة من يكتب، وتجعله على قيد الحياة، كما ورد في الرواية «لم أجد متنفسًا آخر غير الكتابة» وفي موضع آخر «أدركت لاحقًا سر التداوي بالكتابة».
ومع أهمية العنوان، إلا أن التحول إلى عالم بصري يعنى بالصورة؛ جعل من أغلفة الكتب، ولوحات الغلاف تحديدًا محطات مهمة لإبراز هذه الصورة، وتحويلها إلى تشكيلات دلالية متجانسة مع العنوان القريب منها الذي يشاركها الغلاف نفسه، ثم النص الذي يتلوها بعد صفحات، وعتبات أخرى تغدو في مجملها ممهدة له، وكاشفة عنه.
ولعل ما يلفت النظر في الكتب الصادرة عن المبادرة بلا استثناء، وليس فقط في هذه الرواية، بروز الفن التشكيلي الذي يستلهم عناصره من الرموز البصرية الموجودة في الحياة اليومية تارة، ومن أبعادها الفنية الموازية تارة أخرى، مع عدم إغفال علاقتها بالعناوين والنصوص.
يأتي تشكيل الغلاف في الرواية متجانسًا مع العنوان، ودلالتيه المباشرة والإيحائية؛ حيث الشجرة العارية من الأوراق التي تحتفظ بالأغصان فحسب، وحالة الجفاف التي تنعكس على تكوين اللوحة كاملة، مع حالة الترقب التي تعيشها الشخصيات ممثلة في شخص يجلس على كرسي مقابل لهذه الشجرة، ومن خلفها شجرة أخرى بحجم أصغر، مع تماهي اللونين الأصفر والبني مع بعضهما في تشكيل اللوحة، وإن كان اللون الأصفر يتجانس مع لون أوراق الشجرة المتساقط في الخريف، إلا أنه يخفف من قتامة اللون البني الذي تشكلت به الأشجار، ومعها الإنسان، والجماد(الكرسي) ؛ فوضعية الانكسار تنتظر ربما فرجة أمل؛ لتخرج من العتمة إلى النور.
ويحيلنا النظر في هاتين العتبتين بعد قراءة النص كاملًا إلى علاقة بينهما تقوم على ما أسميته(التضفير) وهو في دلالاته اللغوية يرتبط بضفر الشعر أي نسج بعضه على بعض، وانضفر الحبلان إذا التويا معًا، ويحمل دلالات النسج، والتشبيك، والتداخل، وجمع الشيء بعضه إلى بعض، وبتوظيفه هنا، فإنه يدل على تداخل العتبة مع المتن؛ فيشرحها النص، أو يفسرها، أو يكملها، أو يوسع ثيماتها، وينشرها في تفاصيله، وهو ما ينطبق على عتبتي العنوان ولوحة الغلاف في هذه الرواية.
والتوسيع والنشر استنادًا إلى معانيهما المعجمية المعروفة يحيلان إلى الانطلاق من نص محدود لبلوغ نص أكبر؛ ففي التوسيع اللفظي، توسيع للألفاظ الواردة في العنوان ونشرها في فضاء النص المكتوب، وفي التوسيع الدلالي، انتقال من دلالة محدودة إلى دلالات أوسع، فالثيمة مركزة في العنوان، ولوحة الغلاف، لكنها تبدو متفرقة في مواضع مختلفة من النص، وهكذا لا تبقى الدلالة محصورة في العتبة، بل تغدو ملكًا مشاعًا لوحدات السرد.
يشير العنوان إلى جملة من العلامات تحيل إلى أمكنة الرواية، وزمنها، وشخصياتها بانتماءاتها المكانية والاجتماعية؛ فزمن بداية فصل الربيع الذي تظهر فيه أزهار شجرة اللوز يتجانس مع تلك البدايات الجميلة في علاقات الحب: سليمان ومزنة، ربيع وغيمة. كما يتجانس مع إحدى الشخصيات التي تحول اسمها من(ربيّع) إلى(ربيع) ليبدو متوافقًا مع هذه الدلالة، و (ثورات الربيع العربي) وعالم الحرب الذي ركزت عليه الرواية في بعض أحداثها.
ولأن الرواية بين العتبة والمتن تقوم على المزاوجة بين عوالم الناس والطبيعة، فإن اختيار معظم الأسماء يستجيب لعالم العنوان: مزنة، السحابة الممطرة، وغيمة، القطعة من الغيم كالسحابة، وربيع بدلالته على فصل الربيع موسم المطر والخصب، وغصون الذي يحيل على ما تشعب من ساق الشجرة من فروع، بينما نجد تقابلًا في دلالتي الاسمين الآخرين( سليمان ورهيف) فسليمان هو رجل السلام بدلالته العبرية، ورهيف صفة للسيف الرقيق الحد الذي يرتبط بالحرب، والسلام والحرب محطتان وقفت فيهما أحداث الرواية ذهابًا وإيابًا.
ومن جهة ثانية، يظهر أثر المكان في الشخصيات التي تنتمي إلى بيئات تزرع هذه الأشجار، وتقطف ثمارها في أوقات معينة من السنة، ويبدو ذلك واضحًا في اللوحات التي يرسمها رهيف مضمنة أشجار اللوز التي لا تنبت في البيئة النجدية، وفي تعليق ربيع عليها» كم أنت مبدع! لكن أشعر أنها صور مأخوذة من عالم آخر، أشجار اللوز لا تنبت هنا».
وشجرة اللوز، شجرة موسمية تفقد أوراقها موسميًا خلال فصل الخريف، وهذا الفقد يبدو ظاهرًا في تشكيل لوحة الغلاف، كما ينعكس على النص؛ حيث الفقد، والخسارة، والفراغ التي طالت معظم الشخصيات، ولم يكن الفقد واحدًا بل متعددًا بتعدد المواقف، وأسباب الفقد ومآلاته.
وكما يكون سقوط الأوراق من شجرة اللوز أمرًا حتميًا، فإن الفقد يكون كذلك؛ فمهما طالت لحظات اللقاء سيعقبها فراق بلا شك، لكن المعول عليه هنا كيفية اقتناص لحظات الحياة قبل الموت، واللقاء قبل الفراق، والحضور قبل الغياب، وهو ما عبر عنه مسن في القرية» حتمًا ستسقط الأوراق عن الشجرة، ولكن كلما بقيت الأوراق على الأغصان مدة أطول قويت الشجرة، واشتدت براعمها، يحدث هذا كثيرًا مع أشجار اللوز التي لا تسقط أوراقها في الخريف».
ولعل سقوط الأوراق يتجانس مع حالة الغياب التي تكررت في الرواية كما في حالة(سليمان) الذي انتظر شجرة عائلية مكتملة الأوراق ليصحو على كابوس شجرة تسقط منها الأوراق الواحدة تلو الأخرى «كانت أولى الكلمات التي تعلمتها في المدرسة: أبي، أمي، أخي، أختي، بيتنا، ألتفت حولي فلا أجد الأم ولا الأخت ولا الأخ، ومع ذلك لم أكُ يتيمًا؛ لكني عشت في بيت والدي بدون أب». كما أن تحول الشجرة بسقوط الأوراق وعودتها، وتفتح الأزهار واختفاءها، ربما يتجانس مع مراحل انتقالية في الرواية: بين الموت والحياة، الانفصال والاتصال، الفراق واللقاء،ويشكل الموت حالة فقد مؤثرة في الرواية، حيث الأرملة (مزنة) التي تفقد زوجها مبكرًا بسبب الحرب بعد تشكل جنينين في رحمها، ثم الفقد الذي يشعر به الابنان ربيع ورهيف بعد أن يكبرا، ويدركا معنى اليتم حتى مع وجود أم كانت مظلة أمان لهما.
أما حالة الفقد بالفراق الدنيوي، فإن رحلة الفقد الأولى التي تكشف عنها بداية الرواية تبرز شخصيات مأزومة تتوالى حكاياتها؛ إذ تضع هذه البداية حكاية غنيمة التي تسمت باسم والدتها التي تركتها رضيعة، لتلتحق بأهلها في الكويت بعد زواج لم يكتب له الاكتمال» أدركت تاريخ ولادتها وتفاصيل يتمٍ صنعتها والدة سقط من حساباتها أن ثمة قطعة من روحها انفصلت عنها»، ولعل هذا الفقد انعكس على اسمها لاحقًا الذي اختارت أن يكون غيمة بحذف النون بدلًا من غنيمة» الأصل فيه غنيمة بثبوت النون، ثم طرأ عليه التغيير بفعل عوامل العمر والمراهقة فجرد من النون ليصبح غيمة» في تعليق معلمة اللغة العربية على تغيير الاسم. وردها بعد ذلك» أنت تشرحين حالة إعرابية في حين أن اسمي يمثل تحول الدلالة حين انتقل من غنيمة حرب إلى غيمة حب» في اتصال وثيق بثيمة مركزية قامت عليها الرواية حيث ثنائية الحب والحرب.
ويبدو التجانس بين حالة الفقد هذه وأسبابها؛ حيث الأم الكويتية التي لم تنسجم مع المجتمع الجديد، وبين شجرة اللوز التي «لا تقتلع حين توشك على التفتح لأنها ستموت، وحين يتغير موضع الشجرة في الأحوال المناسبة ستحتاج وقتًا طويلًا حتى تتأقلم مع المكان الجديد، ستبدو ميتة في أول أمرها لكن الاهتمام سيعيد إليها الحياة، وقد يكون ذلك ما حدث لأمي، ربما كان الخطأ في التوقيت» كما ورد على لسان غيمة متحدثة عن والدتها الغائبة.
ويمثل الفقد لعدم اكتمال تجارب الحب وجهًا آخر للفقد في الرواية، ولاسيما أنه يحمل انتظارًا لعودة الحبيب(سليمان) بعد أن اعتادت مزنة على الفراق، لكن الحب ومعه الحنين جعلها تعيش صراعًا بين العقل والعاطفة، والوجع والراحة، والدفء والقشعريرة. ويتجانس خريف الفصول الذي تسبب في سقوط أوراق شجرة اللوز مع خريف العمر الذي عاد مع عودة الحبيب ليكون ربيعًا كما عبرت عنه مزنة «لم نحتج وقتًا طويلًا لنتأكد أننا عائدان من مواسم الهجرة في خريف العمر، نلم أشتاتًا تفرقت، ونبعث موات أرواحنا» ولاسيما أن شجرة اللوز في بعض الثقافات رمز للأمل، ولعلاقات الحب البريئة، والمبكرة التي لا تكتمل، وهكذا كانت تجربة سليمان ومزنة في عمرهما المبكر.
وتحضر شجرة اللوز وإيحاءاتها في مواضع أخرى من الرواية؛ مما يؤكد انتشار وتوسعة العتبات في المتن، إذ يتحول تكسير حبات اللوز إلى طقس عائلي يثير الشجون في ذكريات ربيع ورهيف مع والدتهما مزنة» كنا نجتمع في مساءات الصيف نكسر غضاريف اللوز التي تهدى لوالدتي؛ نتقاتل على يد الهاون من سيتولى كسرها...»
وفي حلم مزنة بشجرة اللوز وثمارها وأوراقها، حيث» تدنو الأغصان بثمارها حتى تصل إلى يديّ، ومرة بعد أخرى، ما أن يمس الغصن أطراف أصابعي حتى تنبت في كفي ثمرة لوز ناضجة في هيئة محفزة للشهية مغطاة بأزهار بيضاء في شكل بديع» وهو الحلم الذي كان يحمل بشارات خير وتحقيق أمنيات دونتها مزنة في سنينها المتتابعة وهي تنتظر الحصاد؛ إذ يتخرج ابنها(ربيع) ليصبح ضابطًا، وتجد الرجل الذي كانت تبحث عنه منذ سنوات(سليمان) ليعوض سنوات الألم والانتظار والصبر.