سهم بن ضاوي الدعجاني
سأنطلق من قول الروائي إبراهيم الكوني : «لا نكتب أي شيء له معنى، ما لم نكتب عن أنفسنا» ، لذا «الصحراء» المكان والزمان هي جزء من ذات الروائي الكبير الكوني فبعد قراءة متأنية لسيرته الذاتية المعنونة بـ: «عدوس السرى روح أمم في نزيف ذاكرة « وجدته يتحدث عن مفاصل مسيرته الأدبية والحياتية بشكل عام، لكنه أعطى الصحراء، مكانه ونشأته وبيئته الأساسية التي تلقى فيها الدروس الأولى عن «الحياة» ، بل كانت هي الحصة الأولى في حياته بطقسها القاسي وشخوصها العظيمة وظروفها الغامضة نجده يتحدث عن «الزمان» الذي تحول في عالم الصحراء الى «الخلود» و»أبدية» في حضرة الصحراء فيقول :» الزمان سيرة أخرى لا تختلف في الالتباس عندما يتعلّق الأمر بعلاقتها بالصحراء. فالزمن البرّي زمن آخر. وهو إذا كان الساحر الذي يرى رسالته في أن يظهركل ما استتر، فإنه عرّى الصحراء حتى من ورقة التوت، ولم يبق له إلّا أن يعرِّي فيها الروح بعد أن عرّى الجرم ولكن سيرة التعرية هي ما غرّب الصحراء عن طبيعتها كمكان ليجعلها كلها روحاً، ليجعل منها قارة ملفقة من روح. قارة تسبح في محيط من روح وهو التحدي الذي أعجز الزمان في الإبقاء على طبيعته كزمان في رحاب المملكة الصحراوية، لأن رسالة الزمان أن يبيد كل شيء بعد أن يكشف كل شيء، لكنه لم يُخلق لكي يبيد الروح، ولاسيَّما إذا كان هو نفسه روح المكان: روح المكان لذي باد، من هنا تنازل الزمان عن كبريائه فتخلّى عن مسؤوليته لأول مرة: مسؤوليته في تبديد مكان لم يعد مكاناً، ليتنكّر لطبيعته كزمان فينقلب في حضرة الصحراء خلوداً لا زماناً. ينقلب أبديّة لا سيرورة «ويستمر في رسم خارطة الصحراء وحضورها الطاغي في حياة الروائي النفسية والذي عرف «الظمأ» الى الصحراء، عندما قاده الى حقيقة» رواية الصحراء» التي تجاوزت معنى الرواية زمانياَ ومكانيا لكنها رغم ذلك يمكن أن تسمى «أغنية» أو «سيرة» أو «وصية شعرية» ، فهو يكتب:» لم يتخيّل العدوس الذي عرف الظمأ الى الماء مراراً، أن يعرف الظمأ الى نقيض الماء، الظمأ إلى الصحراء « ، و يواصل علاقته بالصحراء مجيبا زملاءه الروس الذين درس معهم في معهد غوركي للآداب بموسكو :» يتعجب أصدقائي الروس ( عقب صدور مجموعة « جريمة من دمّ» في 1987 ) كيف لا أعاني الجوع الروائي في واقع صحراء انقطعت عنه عشرات السنين لأن ذاك نداء الواقع في استجابة لشرع الرواية. ولكن هيهات أن يدروا أن جوعي ليس إلى واقع تترطه الرواية بقوانينها التقليدية، « لأن لا وجود لرواية حيث لا وجود لواقع تقوم فيه العلاقه ربّة للراوية «، ولكنه جوع إلى اللاواقع الذي ينفي إمكان حدوث الرواية وهو الشرع الوحيد المعترف به في عرف الصحراء. وهو ما يعني أن رواية الصحراء ليست رواية، رواية الصحراء يمكن أن تكون أي شيء ، ولكنها لن تكون رواية بالمفهوم الكلاسيكي للرواية، اللهم إلّا إذا آمنّا بإمكان العدم أن يكتب رواية، ولهذا فإن رواية الصحراء يمكن أن تسمى أي شيء باستثناء «اسم الرواية» . رواية الصحراء يمكن أن تسمى أغنية وجدية. أو سيرةً وجدانية أو وصيةً شعرية أو أي نص يترجم تجربة حلمية، لأن الصحراء ليست واقعًا دينويًا ولكنها كلها روح»، و يواصل الروائي وصفه العميق للصحراء : «نستطيع أن ننفي عن الصحراء طبيعة المكان فيما إذا احتكمنا الى ناموس المكان الذي يملي ضرورة حضور المياه، ولكننا لا نملك الحق في تجريد الصحراء من حضور الطبيعة في المكان برغم اقتراب المكان في الصحراء كمكان والطائفة التي تحاول أن تقنعنا اليوم بغياب الحياة في الصحراء إنما تفعل لأمر في نفس يعقو ، لأن تلك العقلية هي التي أوجدت المبرر الذي أباح اقتراف الكبائر في حق الصحراء بفنون الاستباحة بوصفها فراغاَ (أي مشاعاَ) بلغ الذروة بجعلها حلبة لتجريب أسلحة الدمار الشامل كما فعل الاتحاد السوفييتي في صحراء كازاخستان، وفرنسا في الصحراء الكبرى، وأمريكا في صحراء نيفادا» و يقارن الروائي الكوني مقارنة عجيبة بين «الصحراء» و «البحر» و تأثيرهما في حياته وعلاقتهما الازلية من أجل روح الإنسان حيث يقول : « فالبحر دوماَ القرين الحميم لفردوس العدوس المفقود: الصحراء !وهو إذا كان لا يروى بمياهه السخيّة من ظمأ بيد أنه يروي الروح بالسلسبيل الوحيد الذي تعترف به الروح وهو : الحرية مثله مثل الصحراء تماماَ « .
و في سبيل رسمه للوحة « الصحراء الخالدة « يكتب عن «العناق» الخالد بين السماء والأرض حيث يقول: «في الصحراء فقط تلتئم السماء بالأرض في طقس العشق الحميم واللامحدود» ، إنها صورة من العشق الابدي بين السماء والارض تحتضنه «الصحراء» فقط ، فهي حاضنة قصص العشق من بدء الخليقة.
وفي الختام
هذا العشق للصحراء جعل الروائي الكوني يكتب أجمل إنتاجه الروائي عن معشوقته بل ملهمته «الصحراء»، رغم أنه عاش متنقلا بين عواصم أوروبا من أقصى شرقها إلى أقصى غربها لثلاثة وأربعين عاما دون أن يكتب حرفا روائيا واحدا على هذه البلدان، لأن هذا برهان على قوة الانتماء للهوية الوطنية، وانتصار نادر لقوانين الأدب التي تحتم الكتابة عن عالم يسكننا لا عن العالم الذي نسكنه، و هذا ما جعل السيدة» زومرر» صاحبة دار نشر «لينوس» عندما قرأت مخطوطة «المجوس» بعد ترجمتها إلى الالمانية لتتصل بالكوني و تقول له: «هذه ليست ملحمة الصحراء الكبرى، هذه ملحمة الإنسانية».
** **
المراجع:
* كتاب «عدوس السرى روح أمم في نزيف ذاكرة» ( الأجزاء 1-2-3 )