د.فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح
[تابع لسابق]
إنَّ البحوث تكون من أجل الإجابة عن تساؤلات البحث، والبحث يكون لبيان التَّصوُّرات، وإظهار المصاديق، فلا يحسن أن تكون التَّساؤلات عنواناً؛ إذ العنوان يكون خبراً لا إنشاء، وما تحته يصدِّقه ويشهد له، ويكون برهاناً ومصداقاً للعنوان، ولذا لا يصلح أن يكون العنوان سؤالاً، وهذا أمر علميٌّ.
ومع ذلك فالفاحص الكريم أقام نفسه منافحاً عن الكتاب -وكان يجب أن تكون النُّصرة للعلم بالنَّظر للمنهج العلميِّ، لا للكتاب بالنَّظر لصاحب الكتاب- وهي من الفاحص محاولة اعتذار عن الخلل الَّذي انتاب تقسيم الكتاب في فصوله وعناوينه، ومنافحته ومحاولة الاعتذار عنه لا تخلو من تأثير العاطفة، وذكر ممَّا ذكر أنَّ التَّقسيم خاضع لإرادة الباحث نفسه! وكذلك صوغ العناوين، وأنَّ التَّقسيم أمرٌ شكليٌّ، وأنَّه إذا انتهت الفكرة لا يتكثَّر في الكلام لتزيد الصَّفحات.
أقول: إنَّ أقوال (خضوع التَّقسيم/ صوغ العناوين/ التَّقسيم شكليٌّ) كلُّ هذا تهوين للنَّقد الموجَّه إلى تقسيم الكتاب، فمتى كان البحث العلميُّ يخضع للرَّغبات والإرادات الذَّاتيَّة؟! هو بحث علميٌّ لا رغبة وهوى، يأتيه الباحث متجرِّداً، تحكمه المادة العلميَّة في المحتوى?، والمنطق العلميُّ في التَّقسيم والعرض، والدَّافع هو الإجابة عن بواعث البحث وأسئلته، والعناوين تخضع لأسئلة البحث التَّي يسعى? الباحث ببحثه في كشفها والإجابة عنها، وما ذكره الفاحص مخالف لهذا، بل مناقض له، نعم، عدم التَّزيُّد بالكلام لتكثير الصَّفحات عذرٌ حسن ووجهٌ وجيه، غير أنَّ تسمية ذلك فصلاً غير وجيه ولا مقبولٍ.
والأمر يخضع للمادَّة العلميَّة والمنطق العلميِّ بالمنهج العلميِّ، فلا يخضع للإرادات ولا للهوى، ولا للرَّغبات والتَّشهِّي، والبحث العلميِّ له معايير يحاكم إليها، وبها يُعلم محصِّلة الباحث من ذلك تماماً ونقصاً، ويجب على الفاحص التَّقيُّد بالعلميَّة الصَّادقة المجرَّدة إبَّان التَّحكيم، والابتعاد تماماً أو قدر الإمكان عن المشايعة ومحاولة النُّصرة لصاحب الكتاب المنقود؛ لأنَّ عدم ذلك من المحكِّم حيدة عن العلميَّة وسيرورة وراء العاطفة، والعاطفة هاشمة في البحث العلميِّ.
[كثرة النُّقول معيبة أم محمودة]
الكثرة والقلَّة حالها كحال عدد الصَّفحات الفارط حديثها، إذ هي مثلها سواء بسواء، فإذا كانت النُّقول لغرض أو لفائدة، ولها على البحث عائدة فذاك وإلَّا فلا، ويجب على المصنِّف والباحث صاحب التَّأليف أن ينصَّ في مقدِّمة مصنَّفه على كثرة النُّقول أو أنَّه أكثر النُّقول مع ذكره سبب صنيعه ذلك، فإن لم يذكر ذلك فيفهم أنَّ ذلك انسرب إلى مصنَّفه في حال غفلةٍ منه، وتكاثرت دونما أن يشعر بذلك؛ لذا استوجب أن ينقد جرَّاء ذلك، ولا ينهض الاعتذار له بالجمع والحصر.
ومعلوم أنَّ في البحث العلميِّ يطلب الاستشهاد بنقل أقوال السَّالفين أهل الاختصاص وعرضها وبسطها ومناقشتها، وفي ذلك فائدتان أو أكثر، وهي تأصيل للبحث من مصادره في المسألة المطروقة والمطروحة للنِّقاش والدِّراسة، ومنها أنَّه يُعلم القارئَ اطِّلاعَه وعلمه بما قال مَن سبقه، وأمَّا حين ينداح الباحث لوفرة القائلين فينقل كمّاً كبيراً وكثيراً فهذا معيب، فالإكثار إغراق للبحث، ونقل النُّصوص الطَّويلة ذات الصَّفحات مغيِّب للباحث حضوره؛ فيكون البحث حينئذٍ لغير الباحث إذ ليس للباحث فيه سوى مقدِّمته، ويصبح عمله في بحثه ضبطَ نصوصٍ لغيره.
وكان في بحثٍ نقديٍّ لي أن انتقدت عملاً وقع فيه مثل ذلك فقام الفاحص المحكِّم معذِّراً ومنافحاً عن صاحب العمل أنَّ هذه النُّقول مهمَّة للبحث، وأنَّ ذلك من المصنِّف هو جمع وحصر، والحصر والجمع عمل مقبول، ومشروع في البحث العلميِّ.
أقول: إنَّ ما ذكره الفاحص من اعتذار يمكن وصفه بالبارد؛ لأنَّ الحصر والجمع يكتفى منه بإيراد شاهدٍ أو شاهدين، ويردف ذلك بذكر عدد المحصور والمجموع في المتن أو في الحاشية، لا بإيراد جميع تلك النُّصوص متجاوزة المائة إلى المائتَين وربما زادت عن المائتين، ولأنَّ ما جمَّعه من هذه النُّقول هي في كتب مطبوعة موجودة متداولة.
والحكم يكون لأثر هذه المادَّة المجمَّعة في البحث، وأنا لم أجد لما جمِّعه صاحب الكتاب من فائدةٍ سوى تكبير الكتاب وتكثير صفحاته، فقد بلغت صفحات النُّقول المجرَّدة فحسب (330) صفحة في كتابٍ عدَّة مجموع صفحاته تصل (430) صفحة، وأحسب أنَّ النَّاظر المتَّجرِّد في ذلك المستبعد لسيطرة العاطفة عليه يجد ذلك غير مقبولٍ، وهو منتقَد عنده، وهو معيبٌ علميّاً، إذ البحث لدراسة قضيَّة لا لتجميع نصوص. [متبوع]