ناصر العديلي
«هل عمل ميشيل فوكو يمكن تسميته فلسفة أم تاريخاً أم نظرية اجتماعية أم علماً سياسياً؟»
ف. جيمسون
سلطة وقوة ثقافة ما بعد الحداثة تمثلت في ممارساتها الثقافية وتوثيق علاقتها مع المجال الاقتصادي والتاريخي والسياسي والإعلامي والتي عرفت بالرأسمالية المتأخرة أو الرأسمالية المالية ويعبر عنها أحياناً ما بعد الثورة الصناعية أو الرأسمالية الاستهلاكية ومن نماذجها العولمة وسيطرة التقنية في مراحلها الحالية.
كما تفهم ما بعد الحداثة بصفتها مشاريع ثقافية أو وجهات نظر متعددة تستخدم قي نظرية النقد احتوت مجالات كالعمارة وحقول معرفية متعددة أبرزها الأدب (الشعر والقصة والرواية) والمسرح والدراما والموسيقى والفن التشكيلي والتصميم والسينما والإعلام والصحافة ومجال التجارة والأعمال والتسويق والقانون هذا إلى جانب الدين والسياسة والعلوم الاجتماعية والسلوكية.
سمات منتجات ما بعد الحداثة الخارجية
يرى جيمسون في مجال ما بعد الحداثة أن هناك سمتين معاً وهما:
أولاً: جميع أشكال ما بعد الحداثة المذكورة أعلاه انبثقت كردات فعل خاصة ضد أشكال الحداثة الراقية وأشكال الحداثة الرفيعة المهمة في الجامعة والمتحف وشبكة الفن التشكيلي والمؤسسات.
ففي مجال الشعر يرى جيمسون أن هذه الأساليب الممنوعة والمحاربة سابقاً
- التعبيرية التجريدية الشعر الحداثي العظيم- للشاعر أزر باوند وت .س .اليوت ووالاس ستيفنس والأسلوب الدولي لورييع، فرانك رايت، مير سترافسكي، جيمس جويس، مارسيل بروست، ومان، التي كان ينظر إليها من قبل الأجداد على أنها صادمة او فضائحية، كانت بالنسبة للجيل الذي وصل إلى بوابة الستين يمثابة العدمية، الخانقه، والمنحطه، ويجب على المرء تحطيمها والإتيان بالجديد.
وهذا يعتبر في راي جيمسون أن ثمة أشكالاً عديدة مختلفة ما بعد الحداثة تتناسب طرداً مع اشكال الحداثة القائمة، لأن تلك الأشكال المشار إليها كانت على الأقل ردود فعل خاصة ومحلية ضد تلك النماذج.
والسمة الثانية لما بعد الحداثة تتمثل في محو بعض الحدود والفواصل فيما بينها، والأبرز نسف التميز الأكثر قدماً بين الثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية أو الجماهيرية، ويعتبر جيمسون أن هذا من أكثر تطورات الاكتئاب من وجهة النظر الأكاديمية والتي كان لها تقليدياً مصلحة راسخة من الإبقاء على دائرة الثقافة العالية أو ثقافة النخبة ضد البيئة المحيطة من ثقافة الجماهير، وأعطى أمثلة على ذلك بالمسلسلات التلفزيونية وثقافة دليل القارئ من خلال نشرها مهارات صعبة ومعقدة للقراءة والإصغاء والمشاهدة لمريديها.
ويشير جيمسون إلى بعض نماذج ما بعد الحداثة التي انبهرت بها بشكل خاص مثل الدعاية والفنادق والبرامج الليلية المتأخرة وسينما هوليود من فئة B وما يسمى بالأدب الثاني وكتب الرومانسية ذات الأغلفة الملونة في المطارات والسير الشعيبية وكتب الألغاز والجريمة والخيال العلمي والروايات الرومانسية والفانتازيا.
وفي نقاش جيمسون للسمتين الأخيرتين من مؤشرات ما بعد الحداثة وهما (عملية طمس النماذج الأقدم من الأجناس الأدبية وأنواع الخطابات) يمكن العثور عليها فيما يسمى «النظرية المعاصرة».
ويؤكد جيمسون على نهاية الفلسفة، ويوضح ذلك بقوله قبل جيل من الآن كان مايزال يوجد خطاب تكتيكي للفلسفة المحترفة والأنظمة العظيمة سارتر (الوجودية) أو (الظاهرتية) من أعمال فيتغنشتاين أو الفلسفة التحليلية أو فلسفة اللغة العامة، وكان باستطاعة المرء أن يميز عنها الخطاب المختلف الآخر تماما للمناهج الأكاديمية، العلوم السياسية على سبيل المثال أو علم الاجتماع أو النقد الأدبي.
ظهر لدينا اليوم وبازدياد نوع من الكتابة يسمى ببساطه (نظري) وهي جميع هذه الأشياء كلها وليست أيٌّ منها في وقت واحد.
ويرى جيمسون أن هذا النوع الجديد من الخطابات والذي ارتبط اسمه عامة في فرنسا أو ما يسمى بالمدرسة الفرنسية يصبح واسع الانتشار ويشير إلى نهاية الفلسفة بحد ذاتها.
ويتساءل جيمسون هل عمل ميشيل فوكو يمكن تسميته فلسفة أم تاريخ أم نظرية اجتماعية أم علم سياسي؟ أو غير قابل للحسم، ويعتبر ذلك ضمن تجليات ما بعد الحداثة.
المنحنيات الداخلية لما بعد الحداثة
في الوقت الذي يبرز جيمسون ويشخص السمات والعوامل الخارجية لما بعد الحداثة، يشخص السمات والعوامل الداخلية المتمثلة في الصرعات والتناقضات الداخلية ويوضح الطرق التي تعبر عنها ما بعد الحداثة الجديدة عن الحقيقة الداخلية للنظام الاجتماعي الجديد الناهض حديثا من الرأسمالية المتأخرة، ويركز على جانبين مهمين وهما:
الأول الفصام Schizophrenia والثاني المزج أو الخلط بين عدة أساليب عديدة أو ما يعرف ب Pastiche
ويعتقد جيمسون أن هذين البعدين سوف يقدمان لنا فرصاً لتحسين حقيقة التجربة ما بعد الحداثية كالمكان والزمان بالترتيب.
أولاً: الفصام (الشيزوفرينيا Schizophrenia والمتمثل في تحطم وتفتت العلاقات بين المعاني، وتحطم الوقت والذاكرة وخبرة الانفصال والتفكك وعدم التواصل وهي المسببة لتحول الواقع إلى صور والتشتت الذهني، وهذا ما نشهده ونعيشه في عصرنا الحاضر، وبشكل متزايد في أيامنا هذه.
ثانياً المزج: ويعرف بالمحاكاة الساخرة Parondy
ويعتبره جيمسون من أهم الخصائص والممارسات في مابعد الحداثة، وإن كلاً من المزج والمحاكاة الساخرة يتضمن التقليد أو محاكاة أساليب أخرى خصوصاً طرقاً أسلوبية نافرة ونبضات أسلوب بعينه، والأدب الحديث يوفر حقلاً غنياً جداً للمحاكاة، بعكس كتاب الحداثة العظام الذين تميزوا بإبداع أساليب فريدة مثل (الجمل الطويلة في الرواية للروائي الأمريكي وليم فوكنر، وصور الطبيعة عند الروائي د. ه. لورنس، واستخدام التجريدات لدى الروائي ولأس ستيفنس) وفي مجال الفلسفة أسلوب مارتن هيدجر، وجان بول سارتر) وفي مجال الموسيقى (أسلوب ماهلر، أو بروكوفيف) وهذه أساليب يعتبرها جيمسون مميزة ولا يمكن اختلاطها مع غيرها.
ويتساءل جيمسون لماذا يجب أن تحتل ما بعد الحداثة مكانتها؟
ويجيب بأن «هذا المكون الجديد هو ما يدعى عامة» موت الفاعل «أو» نهاية الفردية كفرد».
ويؤكد جيسميون أن هذا النوع من الفردانية والهوية الشخصية شيء من الماضي، وأن الفرد القديم أو الفاعل الفرداني» ميت «كما يرى المنظرون الاجتماعيون والمحللون النفسيون.
ويستنتج جيمسون أن سبب ولادة المزج بين الأساليب Pastche الآن في عالم لم يعد الابتكار الأسلوبي ممكناً، لم يبق هناك سوى تقليد الأساليب الميتة، التكلم من خلال الأقنعة، وبأصوات أساليب المتخفي المتخيل. وهذا يعني حسب جيمسون» أن الفن المعاصر أو ما بعد الحداثي سيدور حول الفن نفسه بطريقة ما جديدة «بل يعنى أيضاً» أن إحدى غاياته الجوهرية تضمر الإخفاق الضروري للفن والبعد الجمالي وإخفاق الجديد».
وفي رأينا هذا يبرز في بعض الأعمال الروائية والقصصية والشعرية والفن التشكيلي والموسيقى والأغنيات لأدب وفن ما بعد الحداثة، سواء منه الأدب الغربي المترجم أو الأدب والفن العربي. وهذا ما سيكون موضوع لمقالة قادمة.
هوامش:
- فريدرك جيمسون، ما بعد الحداثة المنطق الثقافي للرأسمالية، ترجمة أحمد حسان، 1994، مجلة الجراد.-