د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
قبل البدء..
كنتُ حديثَ التخرج في الجامعة، حين عبر بمسكني في بيت العزوبية بحيِّ المعاهد (الجرَّادية) صديقان طلبا مني مرافقتهما، فسألتُهما: إلى أين؟ فقالا: إلى مجلس الوزراء! وعلتني الدهشةُ؛ فما شأنُكما بالمجلس؟ وما شأني معكما؟ ولثقتي أنهما مثلي؛ لم يغشيا مكتب وزيرٍ أو وكيلٍ أو مديرٍ عام، بل ولا مكتب عميد كليةٍ أو وكيلها، فقلت: خير! قالا: اركبْ وتعرف.
سادتْ فترةُ صمتٍ أو ترقب، واقتعدتُ الكرسيَّ الخلفيَّ في سيارةٍ متواضعةٍ، وفي الطريق أبلغاني أنهما سيُقدّمان على منحة أرضٍ خصصتها الحكومة في عهد الملك خالد رحمه الله لجميع خريجي الجامعات في كلِّ مناطق المملكة، والمتطلبات: معروض، أي خطاب بخط اليد لمقام جلالته، وصورة من الشهادة، وأخرى من حفيظة النفوس، أي الهوية الوطنية كما كانت تسمى حينها، ونريدك أن تقدِّمَ معنا.
أذكرُ أنني ترددتُ، لا زهدًا بالمنحة؛ فأنا أستأجر - بالاشتراك مع صديقين- بيتًا شعبيًا بمبلغ سبعة عشر ألفًا في السنة، وليس لديَّ بيتٌ أملكه، بل ليس في الأفق بيتٌ يُحتملُ أن أملكَه في ذلك الوقت، وراتبي الشهري أقلُّ من ثلاثة آلاف ريال، غير أنَّ مبعثَ ترددي عدمُ استيعاب الفكرة، وكدتُ أرفضُ لولا أن أحدَهما، وهو الصديق عبدالرحمن بن عبدالعزيز الخطيب «من حائل»، قال بلهجة حاسمة: وش يضرك؟! وثنَّى على كلامه الصديق محمد بن صالح المجحدي «من بريدة» رحمه الله، وقدَّما لي ورقةً بيضاء لكتابة المعروض؛ فطلبتُ منهما العودة للمنزل لجلب الوثائق، ولم نكن قد ابتعدنا عنه، ولا زحام فلا تأخير، وفي السيارة سطرتُ بضع كلماتٍ نمطيةٍ تشبه المحفوظات أملياها عليَّ، ومررنا بمكتبةٍ صورتُ فيها الأوراق، واشتريتُ منها «الملف العلاقيّ الأخضر»، ودخلنا إلى مبنى المجلس في شارع الملك فيصل، وفيه مكتبٌ خارجيٌ لتلقي الطلبات، ووقفنا أمام رجلٍ مهذبٍ في صفٍ غير طويل، وإن لم تخنّي الذاكرة فإنه من أسرة (العطني) الكريمة، وبعدما طالعها، قال: ملفاتكم مكتملة، والله معكم.
لم أقتنعْ بجدوى التقديم، ولم أثقْ بنتيجته، ولم يمضِ طويل وقتٍ حتى صدر قرار معهد الإدارة بابتعاثي إلى الولايات المتحدة، وغبتُ سنواتٍ، وحين عدتُ وجدتُ وثيقة المنحةِ جاهزة، وتجاور ثلاثتُنا في الموقع نفسه بشوارع متقاربة، وبنينا عليها منازلنا، وهو منزلي الذي ما أزال أسكنُه حتى اليوم.
وعيتُ فيما بعد أن منحَ الأراضي عمّت الخريجين وغيرَهم بتوجيهٍ من الحكومة الكريمة، وبمتابعةٍ من أمين مدينة الرياض آنذاك معالي الشيخ عبدالله العلي النعيم، الذي لا أعرفُه ولم أرَه، ولا رابطةَ بيننا بالرغم من انتمائنا إلى مدينةٍ واحدة.
مضت بنا الحياة، ورأيته - على بعدٍ - في ندوات معهد الإدارة، والتقينا دون أن يعرفَني في مؤتمر دولي بدبي عام 1995م، بل حتى حين عملت معه لقاءً ضافيًا لصفحتي «واجهة ومواجهة» لم أقابلْه، بل بعثتُ الأسئلةَ واستقبلتُ الإجاباتِ بالبريد الرسمي.
السيرةُ الأولى
قبل أكثر من عشرين عامًا اتصل بي الصديق المهندس عبدالعزيز بن صالح الرميح الأمين العام الأسبق للجمعية الخيرية الصالحية بعنيزة يبلغني أن مدينة عنيزة تعتزم تكريم معالي الشيخ عبدالله العلي النعيم، واعتادوا إصدار كتاب «مناسباتيٍ» كلَّ عام تتصدرُه كلمةٌ ضافيةٌ عن الشخصية المكرمة فرغب مني كتابتَها عن النعيم، ومثلُ أبي عزام لا يُعتذرُ منه، وسألته عن حجمها فقال: في حدود عشرين صفحة، فاستعنتُ بما بعثوه لي وما بحثتُه بنفسي، ووجدتُني أمام مطرٍ من المعلومات امتدَّ به ما كتبتُه إلى أربعين صفحةً عن حياته وإنجازاته، وسلمتها خلال وقت قصير بالرغم من ظروف عملي التي لا تتيح لي ساعة فراغٍ واحدة، وظننتُ أن المهمة «الطَّوعية» قد اكتملت لأُتلقى اتصالًا هاتفيًا من الشيخ عبدالله، وهو الأول بيننا، يشكرني فيه على ما بذلتُه، ويطلب مني لقاءَه، ووصف لي منزله بحيِّ الريان، وقال لي بلهجته العفوية: «توِّنا بدينا»! وإنه سيزودُني بأوراقٍ ووثائقَ وصورٍ لتمتدَّ الصفحات الأربعون فتصبحَ كتابًا شاملًا عن سيرته ومسيرته، وفاجأني طلبُه لكنني لم أستطع الاعتذار، ولم تكن المسافة الفاصلةُ عن الاحتفال المقرر أكثر من أربعة أشهر؛ فواصلتُ عملي بوقتي الخاص، ولا أنسى كيف كانت «أم يزن» تحضُّني على الرفق بنفسي، ولديَّ وقتها بوادرُ آلامٍ في الظهر تحولت فيما بعد إلى «ديسك» مزمن، فصار تأليف الكتاب إضافةً إلى مسؤولياتي في «القطاع الأهلي وتحرير الجزيرة» بحيث لم يتبقَ فوقهما وقتٌ إلا للنوم.
سار الزمنُ، وأنجزتُ أولَ كتابٍ عن أبي علي أسميتُه: (الإدارة بالإرادة) نفدت طبعتُه الأولى فالثانيةُ المزيدة، وبينهما شهران من عام 2002م (مايو ويوليو) «بأكثر من أربع مئة صفحة»، وافترض كثيرون أنني عملتُه بأجر، وانتشرت الشائعات في المدينة الصغيرة، حتى قيل إنهم أي (الجمعية وأبو علي) دفعوا لي مبلغًا كبيرًا، وبالفعل فقد عرضوا مثلَ ذلك فرفضت، وطلب مني المهندس الرميح كتابة خطاب بهذا الشأن أثبتُّه في الطبعة الثانية، وأكدتُ فيه أنني لم أؤلف الكتاب إلا تأكيدًا لمكانة الشيخ النعيم وتقديرًا لدوره في الأعمال الرسمية وغير الرسمية التي تولاها، وفيه ما موجزُه:
- لقد قمتُ بهذا العمل إيمانًا بأن هذا هو أقلُّ الأقل مما يمكن أن أُقدّمَه لعنيزة وللجمعية ولمركز ابن صالح.
- سعدت بأن أتشرف بالتأليف عن رجل قدَّرتُه قبل أن أعرفَه، وأحببتُه بعدما عرفتُه، وأيقنتُ أن عرض تجربته المديدة لجيل الإداريين الجدد على امتداد الوطن خطوة رائدة.
- لقد وافقتُ على تأليف الكتاب بعدما انتفت أيُّ مصلحة، ولم يعد ثمة مجالٌ لمتقوّلٍ قد يتصورُ دوافعَ شخصيةً خلف هذا المؤلَّف، ليبقى الدافعُ الأوحد الإيمانَ بقيمة أبي علي ودوره وريادته ونزاهته، وما أروعه من دافع.
وختمتُ الخطاب بمقولة الشاعر والناثر محمد الماغوط:
«ما من قوةٍ في العالم تُرغمني على محبةِ ما لا أُحب»
4-5-2002م
السيرة الثانية
مرت بضعةُ أعوام فجرى التفكير في إصدار طبعة ثالثةٍ للكتاب، وحين استُشرتُ في الموضوع لم أفضِّل الفكرة؛ فالطبعتان نفدتا بعد توزيعٍ جيدٍ لهما، وبآلاف النسخ، ومن حازهما لن يقتنيَ الثالثة لاكتفائه بهما، وقلةٌ من ليست لديهم، واقترحتُ تأليف كتابٍ جديد، ولم أعتقد أنني سأكون مسؤولًا عنه كسابقه، وحاولتُ الاعتذار لالتزاماتي المتعددة، غير أني لم أُعذرْ، ووجدتُ في مساندة الصديق الأستاذ عبدالرحمن المرداس في التصميم والتنفيذ، والأستاذ عمر غالب في المتابعة والتدقيق ما جعل الكتاب يزهو بطبعتين خلال عامين في 376 صفحة مع وثائقَ وصورٍ وتبويبٍ مختلفٍ عن الكتاب الأول، وتضمن معلوماتٍ جديدةً وقراءةً متجددة، وعرض عليَّ أبو علي مكافأةً فرفضتُ، وعددتُه امتدادًا لمحبتي إياه وتقديري لأدواره، ومن يعرف الشيخ عبدالله يثق أنه لن يتوقف؛ فقد فكّر في كتاب جديد.
السيرة الثالثة
شاء أبو علي إصدار الكتاب الثالث، فاقترحتُ عليه التوجه إلى مؤسسةٍ معنيةٍ بكتابات السير كي لا يجيء الكتاب الجديدُ شبيهًا بسابقيه، وهكذا كان؛ فتولى مركز العالِم للتوثيق إصداره، وقد اخترتُ عنوانه: (عشتُ لم ألتفتْ: رؤية سردية للمسيرة الرسمية والتطوعية)، وجاء في 180 صفحة، واقتصر دوري على عنونته ومراجعته، وفي أبوابه:
(ذات ظهيرة في شوارع الرياض -البحث عن الذات- التحليق بعيدًا- مولد قيادي- المعلم الصغير - قيادة الأزمات- قيادة الرأي العام- المناورة الكبرى- في عشق الرياض-الخيال والرؤية المستقبلية - معالي المواطن عبدالله النعيم ... الخ) وخلا من الصور والأوسمة والوثائق والشهادات.
السيرة الرابعة
اليوم يودُّ أستاذنا أبو عليّ تقديم طبعة جديدة «ثالثة» من الكتاب الثاني: (بتوقيعي)، وقد تواصل مع أصدقائه وعارفيه ليُمدُّوه بملاحظاتهم، وحيث إنني عايشتُ الكتب الثلاثة بطبعاتها، وصرتُ أشبه بالمختصِّ في سيرته مما يمنحني رؤيةً قد تكونُ أقربَ إلى الواقع بما يُفيدُ القارئَ العام، وباحثي الإدارة والتنمية، ويُخلِّدُ أكثر من سبعين عامًا من العطاء « النُّعيميّ» في ميادين التربية والتعليم والثقافة، والإدارة المحلية، والشركات، والعمل التطوعيِّ والخيريِّ، وسواها، فلعلي أقترح إعادةَ طباعة ما نفد من الكتب الثلاثة وَفقًا لما تطلبه المكتبات العامة والتجارية، والمراكز البحثية، وما في حكمها، وإنشاءَ موقعٍ آليٍ عبر الشبكات الرقمية يليقُ بمكانة وإمكانات الشيخ عبدالله؛ تُوضع فيه الكتبُ بطبعاتِها وتحديثاتِها، سواء ما اتصل منها بالسيرة الذاتية، أو المحاضرات والمؤلفات الأخرى، أو الأنشطة والوثائق والأوسمة والجوائز والشهادات والإشادات والصور الثابتة والمرئية وغيرها، وهنا ستتجددُ الكتبُ بإيقاعٍ أفضلَ يحافظ على الشكل التقليدي «الورقي» بما صدر سابقًا أو أعيدت طباعته، مع وجودها بصيغةٍ تقبل تصويرَها وتبادلَها عبر التقنيات الرقمية، عدا إتاحتها بصورةٍ واسعةٍ داخلَ وخارج الوطن، وهنا تتضاعف الإفادةُ ويتحققُ الانتشار.
وإذا كانت هناك فكرة لدى معالي الشيخ النعيم فليكن الكتابُ الرابع عن رحلة تسعة عقود عبر الزمان والمكان ومع الإنسان لنقرأَ عن المدن والناس في عنيزة وجدة والرياض ولندن والعواصم العربية والعالمية بتوقيع شاهدٍ رأى تبدلاتٍ وتحولاتٍ مجتمعيةً ومدنيةً واقتصادية، وستكون (مذكرات عبدالله العلي النعيم) تأريخًا ناطقًا سيُوثقُ للأجيال بعضَ ما لم يعوه ولم يعرفوه؛ فلعله يُضيءُ دروبًا امتلأت بالطين وبالطيبين، وبالعَرق والمكافحين الذين أدمتْ أقدامَهم أشواكُ الطريق، ومشاعرَهم جفاءُ الرفيق، وأمّنوا لأولادهم وأحفادهم حياةً هانئةً، ودروبًا سالكةً، ونعمًا تستحقُ شكرَ المُنعم ذي الحول والطول.
التفتوا إلى كباركم؛ فالشيخوخةُ ستحتفي بكم، أطال اللهُ أعمارَكم.