رمضان جريدي العنزي
العظاميون الذين يعيشون على ما بناه الأسلاف غير كاف لجعلهم من الوجهاء والأعيان والمهمين في المجتمع، والذين في رأيهم يجب أن يعطوا الزمان، ويهيأ لهم المكان، إنه الوهم والحلم والتوهم الذي يعشعش في رؤوسهم، لأن السمو والعلو والرفعة والمكانة لا تنتسب للذي يعيش على هامش الماضي، يتمسك بذيوله، ويقتات منه دون بذل الجهد والكفاح والعمل. إن على هؤلاء أن يكونوا عصاميين قبل أن يكونوا عظاميين، أي يفخروا بأنفسهم، ويعتمدون عليها في بناء صروح المجد، ولا يغرنهم أمجاد آبائهم وأجدادهم، فهو كالثوب البالي المستعار، لا يقيهم من قر ولا من حر، فرق كبير بين العصامي الذي يبني نفسه بنفسه، والعظامي الذي يفتخر بعظام آبائه وأجداده، والتي بالتأكيد نخرت وبليت ولن تعود مطلقاً، أن العظام الرميمة لن تصنع مجداً، وأن توسل العظاميون هذا المجد، فلن يجديهم نفعاً، يحكى أن عاملاً متواضعاً يدعى عصام الجرمي كان في بلاط النعمان بن منذر ملك الحيرة وأشهر ملوك المناذرة، وقد استخدمه النعمان في قصره، بدأ عصام يتقرَّب للملك حتى أصبح بجهده وذكائه وتفانيه في العمل حاجباً له، وهكذا ظل يرتقي ويصعد إلى أن أصبح من أقرب المساعدين للنعمان، من بعد أن أثبت جدارته وحنكته الإدارية وشجاعته، حتى قال عنه الملك، (إن عصام بن شهبر الجرمي بألف جندي)، ذاع صيت عصام حتى صار من أعلام العرب في الجاهلية، من هنا صار عصام مثلاً يضرب للذي يعمل بجهده ويتفانى في عمله ويرتقي للمعالي، لا يعتمد في ترقياته وعلوه على آبائه وأجداده، حتى قالت العرب: كن عصامياً ولا تكن عظامياً، أي أفخر بنفسك وليس بعظام آبائك وأجدادك، وقال فيه النابغة الذبياني:
نفسُ عِصامٍ سوّدتْ عِصاماً
وعلّمتهُ الكرّ والإقداما
وصيّرتْهُ بطلاً هُماما
حتّى علا وجاوزَ الأقواما
ذلك أن العظامي، الذي هو نقيض العصامي، أشبه بكائن طفيلي من تلك الطفيليات التي تعيش على أجساد الآخرين، دون أن يكون لهم أدنى جهد في دعم وبناء تلك الأجساد، إنه كائن متسلّق على سمعة وتاريخ الآخرين، اقرأوا إن شئتم سيرة العظماء والمخترعين والمكتشفين، ستجدونهم أناساً عصاميين، حياتهم سلسلة من الكفاح والعمل الدؤوب والجهد المتواصل، ليلاً ونهاراً، من غير أن يركنوا إلى سيرة آبائهم وأجدادهم، بل اعتمدوا كلياً على أنفسهم وجهدهم وطموحهم وأفكارهم. إن العقلية الطفولية التي يعيشها هؤلاء العظاميون، عقلية التسلّق والوصول على أكتاف وعظام الآباء والأجداد، لن تجديهم نفعاً ولن تجلب لهم فائدة، وفي الأخير أود التذكير بالآيات الكريمة قال تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}، وقال تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ، وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ}، وقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}، مشهد مرعب من مشاهد يوم القيامة؛ مشهد يخلع القلوب من أماكنها، الكل مشغول بنفسه وشأنه، ولن ينفع العظاميين حينها الأب أو الجد، بل ما ينفعهم هو العمل الخالص لوجهه تعالى الذي قدموه في الدنيا، وعلى هذا الأساس سينال كل نصيبه وأجره ومنزلته. لقد كثر اليوم المتباهون بالعظام الرميمة، واللابسون لأردية آبائهم وأجدادهم، والحاملون لها أينما ما حلوا وارتحلوا، وهم الخاملون والكسالى والحيارى، وباختصار شديد أقول لهؤلاء المحنطين كما قال الشاعر:
إِنَّ الفَتى مَن يُقولُ ها أَنا ذا
لَيسَ الفَتى مَن يُقولُ كانَ أَبي
مع أهمية أن نحتفظ بأمجاد ونجاحات آبائنا وأجدادنا ونقدرها حق التقدير، ونحاكيها باعتزاز، ونضيف إليها، لا أن نكتفي بها، وبما عمله من سبقونا.