د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
ما كنت لأقرأ هذا الكتاب لولا ابني الحبيب أوس الذي امتدحه، وأنا أثق برأيه وكنت قرأت كتبًا قبل اقترح عليّ أن أقرأها، وكان أن سلمني نسخته لتيسير الأمر عليّ، والعنوان الشارح لاسم هذا الكتاب (ذكرياتي مع جائحة كورونا 2020)، والحق أن هذا الكتاب الذي كتبه الدكتور توفيق بن فوزان الربيعة وزير الصحة السابق ليس مجرد ذكريات. نعم، هو معتمد على الذكريات؛ ولكنه نسيج من التعبير عن قصة كفاح مريرة مرت بها بلادنا الغالية في مجابهة وباء كان من أخطر الأوبئة التي هزت العالم وأودت بحياة ما لا حصر له من الناس، قصة كفاح مجيد، كتاب يضعك في الحدث بوضوح وصدق ويقدم بلغة أدبية مشحونة بالعواطف التي لا يمكن تجنبها في مثل هذا الوصف الدقيق لمسائل معقدة ومتشابكة ومشكلات متداخلة ليس يسهل حلها لولا عزيمة الرجال الصادقة ولولا العين الساهرة المؤيدة المعززة التي واكبت الأحداث، وهي عين الحكومة الرشيدة برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان والإدارة الحكيمة الذكية التي يدير بها شؤون البلاد ولي العهد الملهم صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان حفظهما الله.
بكيت غير مرة وأنا أقرأ محطات هذا الكتاب، وطالما أبكتني حكايات الكفاح المكلل بالنجاح. ولم يكن النجاح ممكنًا لولا المبادرة التي عبر عنها عنوان الكتاب الذي فسره المؤلف في قوله «هذا الشعور المتحفز والمتعب هو الذي أوحى بعنوان هذا الكتاب، إذ إن الوقوف على أطراف الأصابع هو حالة الاستعداد للعدائين قبيل انطلاقهم، وفيه يكون الذهن في أعلى حضور له، وهو أيضًا ما يفعله الإنسان لينظر للبعيد، وكأنه يتطاول بقدميه ليرى ما هو أبعد، هكذا كنا نرى الأزمة في الصين عندما بدأت قبل أن تقطع كل تلك المسافات لتصل، ثم هي تلك الحالة من التعب والإرهاق لطول الوقوف والعمل، لقد كانت أيامًا صعبة بكل منحنياتها»(ص15).
يبدأ هذا الكتاب الرائع بمحطته الأولى وهي عن حال وزارة الصحة في ذلك الوقت، وهي حال هادئة عبر عنها بالعنوان (بحر هادئ)؛ ولكنه يختم الحديث بخلاصة حكمة مستفادة، وهكذا فعل في كل محطات الكتاب تجد في النهاية حكمة وهبتها المعاناة ومحاولة الكفاح وحلّ الأزمات، وهي خلاصة تجربة إدارية والنجاح قرين الإدارة الناجحة، ولم يكن توفيق الربيعة طبيبًا، كما قال غير مرة، ولكنه كان إداريًّا عبقريًّا، وهبه الله سعة الأفق، وقوة الاحتمال، وحسن التصرف، وصدق النية، والتواضع أمام الحقائق، ومعرفة أقدار الناس وإمكاناتهم، ما كان لينجح لولا هذا الفريق الذي أحسن الاستعانة به واستمع إليهم وإلى غيرهم من أولي الخبرة والقدرة على الإنجاز، كتب في ختام (بحر هادئ) إنّ البحر الهادئ ليس آمنًا وإن الربان الناجح يجب أن يستغل الهدوء للقادم من أيامه، ومن هنا جاءت فكرة (مركز الكوارث والأزمات) ومركز (القيادة والتحكم).
تتوالى محطات الكتاب فتقف القارئ على (أصوات على بُعد آلاف الأميال) هذه الأصوات حول فيروس استشرى في مقاطعة (ووهان) الصينية، وهي أصوات تنذر بالخطر وتقتضي الاستعداد، إذ (الأيام الهادئة ليست للراحة)، وما كان على بعد أميال هاهو (على ضفاف الخليج)، فلما تفاقم أمر هذا الفيروس وتزايد حديث منظمة الصحة العالمية عنه بادر المقام السامي بتشكيل لجنة تضم جهات الدولة لمجابهة هذا الأمر، ثم إن (اللجان تتوالد) بما يقتضيه الأمر، وكانت سعة الأفق والحدس الموفق رائد الرجال الملهمين، فلما كانت التجمعات مرتعًا خصبًا لهذا الفيروس كان أمر تجنب التجمعات واجبًا، ومن أكثر التجمعات ما يكون في الحرمين من ازدحام المعتمرين والحجاج، ومن هنا هديت الحكومة الرشيدة إلى منع العمرة ثم الحج، وكان الهدف التطهير {وطهّر بيتي للطائفي}، وليس الحرمان منطقة تجمع وحدها إذ تنبه الرجال الأكْفاء إلى أن المدارس يمكن أن تكون بؤر نشر للفيروس فكان أن منعت الدراسة الحضورية وكانت (مدارس في البيوت)، وانتبه إلى أن المساجد كالمدارس في التجمع فكان أن استبدل في الأذان (صلوا في بيوتكم) بـ(حيّ على الصلاة)، وإن من المعضلات التي واجهت البلاد وجود مواطنين خارج البلاد في (ووهان) وغيرها من أصقاع العالم، فلم تتوان الدولة في السعي الجاد لإحضارهم ثم عزلهم فكانت (المحاجر وعودة المواطنين)، وكان من أعظم ما اقتضاه التصدي للوباء العلاج أو اللِقاح الواقي بإذن الله، وهنا أتى اقتتال الأمم في سبيل ما يهمها (ومن بعدي الطوفان).
وبعد يقفنا الكتاب على (أول حالة وحديث القطيف) الذي ظهرت فيه أول حالة، وهبت الوزارة تحاصر الفيروس وهيأت لذلك من الوسائل ما يهيئ المواطن والمقيم لأن يتأكد ويطمئن (تأكد ثم تطمّن)، وبعد يلقي المؤلف قارئه (في قلب الأزمة) بحديث عن الإصابات والوفيات والمجاهدة، ثمّ يكتب معلقًا «عند اتخاذ أي قرار يجب أن تشرك القلب مع العقل حتى يكون القرار العقلاني إنسانيّا في الوقت نفس ه، وهذا يجعله يحظى بالقبول والديمومة»ص117، ثم جاء حديث اللقاح (جرعة الحياة) وكيف يقنع الناس بضرورته لا ضرره، فكان أن خرج الوزير في لقاء تلفازي متحدثًا عن اللقاحات حاملًا معه قنينة اللقاح، وفي الكتاب يشرح الوزير الإجراءات الذكية لتهيئة أماكن إجراء اللقاح للناس بنظام فريد، ولما ووجهت مسألة اللقاح بمعارضة فئيم من الناس مشككين حينًا بجدواها وواصفينها بالمؤامرة أحيانًا والإنسان عدو ما يجهل؛ رأى الوزير أن من دواعي مسؤوليته أن يبدد الخوف من اللقاح، فبادر ليكون أول من يتلقى اللقاح، وصور ونشر في التلفزة، وبعده تلقت اللقاح امرأة مسنة ورجلان مسنان مواطن ومقيم، على أن أبلغ أثر فكان إثر تلقي اللقاحِ خادمُ الحرمين الملك سلمان وولي العهد محمد بن سلمان؛ إذ انهالت بعد ذلك طلبات تلقي اللقاح.
ويقفك الكتاب بما سماه (صوتنا للناس) على جانب مهم له أثره البالغ في الجمهور المتلقي؛ فالعامل النفسي فعّال، ووسيلته الأولى لغة الخطاب التي يوافى بها، وقد وفق الله المهتمين بصدّ هذا الوباء إلى تخير لغة الإعلان وأسماء التطبيقات الموفقة مثل (طمني) و(تأكد) ثم (توكلنا) و(تباعد)، وكان التقرير اليومي للقاء المعقود في (هيئة الغذاء والدواء) أهمية بالغة في بث الثقة بما فيه من شفافية وصدق خطاب.
وختم الكتاب فكانت (نهاية مفتوحة) لأن «هذه بعض ملامح من أيّامٍ عبرت، وليالٍ طال فيها العمل والسهر، هي جزء مما يمكن أن نتركه لجيل قادم، أو مطّلع باحث، أو متأمل مشارك، من أثناء الحكاية الكبيرة: مواجهة الجائحة بالدأب، ومقاومة الفيروس بالمناعة والوعي. أخذ الفيروس بعض أحبابنا، وكثيرًا من وقتنا، تحولت أحاديثنا أرقامًا، ورسائلنا أخبارًا؛ لكنه ترك لنا دروسًا تمتد ما بين شكر المولى على دوام الصحة، والحرص على أن تكون احتياطاتنا الصحية والوقائية دومًا في أعلى مستوياتها».(ص155)
في الكتاب جمال تعجز كلماتي عن التعبير عنه، فلا يدرك إلا بقراءة الكتاب نفسه، وأرجح أنه سيمتع كل قارئ، إنه وثيقة لكفاح وطن.