د.فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح
[تابع لسابق]
[شهرة الكتاب والعصمة النَّقد]
شهرة الكتاب أتعصمه من النَّقد؟ إنَّ شهرة الكتاب، وتلقِّي النَّاس له بالقبول لا يعفيه من النَّقد، والنَّاس ليسوا حَكَمةً في ذلك، بل الحاكم في ذلك هو المتخصِّص في المجال نفسه، وقد كان كتابٌ أبنتُ ما فيه من مثالب في تقسيمه وعناوين فصوله وعدَّة صفحاته، كلُّها جاء فيها إخلال من مثل ما ذكرته سابقاً، وأنَّه بعد ذلك لم يأت بجديد لا في العرض ولا في الطَّرح، إذ العرض نقولٌ، والطَّرح اختيار أحد المذهبين.
وجاء الفاحص المحكِّم منافحاً عنه أنَّه أفضل كتابٍ في بابه، وأنَّ الحكم بأنَّه لم يأت بجديد فيه إجحاف.
وأقول: الأفضليَّة الَّتي ذكرها الفاحص هي رأي خاصٌّ له، والحكم فيها يكون لجماعة من المتخصِّصين، أمَّا رأي الفرد فيبقى فرديّاً، فالجماعة هي مَن تحكم بالصِّحة لقولي أو لقوله.
ولتقريب ذلك لعلي أضرب مثالاً من التَّخصُّص ليكن مثلاً لو اخترت عنواناً هو (الاحتجاج بالحديث في التَّقعيد النَّحويِّ)، وأقمتُ كتاباً في هذا الموضوع تتجاوز صفحاته (300) صفحة، وخلصت إلى أنَّه يجوز الاحتجاج بالحديث، فلا جديد عندك في كتابك هذا؛ لأنَّ ما وصلت إليه هو جواز الاحتجاج بالحديث، والسُّيوطيُّ في كتابه (الاقتراح) قد ذكر من قبلُ أنَّ في المسألة ثلاثة مذاهب؛ المنع مطلقاً، والجواز مطلقاً، والتَّوسُّط، والباحث وقتما بحث بحثه أو وقت كتابة كتابه كان يعلم هذه المذاهب في المسألة، ويأتي بعد البحث ليقول: خلصت إلى أنَّه يجوز الاحتجاج!
ومن الغلط مثلاً أن يجزم الباحث بأنَّ المتقدِّمين احتجُّوا بالحديث ولم يغفلوه، ويعدُّه سبقاً له= هذا غير صحيح، إذ قد سبق الباحث بتلك النَّتيجة ابن الطَّيِّب الفاسيُّ في كتابَيه (فيض النَّشر، وتحرير الرِّواية)، ولنقل إنَّها له، وعنده شواهد لذلك وأدلَّة عليه، في حين أنَّك تجد هذا الباحث في تقسيمه لبحثه يقسِّمه لنحويِّين ما قبل الاحتجاج، وإلى نحويَّين ما بعد الاحتجاج، فهذا فيه إخلال، وكان حقُّ التَّقسيم أن يكون: الاحتجاج بالحديث قبل ابن مالك، والاحتجاج بالحديث بعد ابن مالك، فذلك هو ما يتوافق مع ما يأخذ به الباحث، وما كتبه في مقدِّمته وتمهيده من أنَّ المتقدِّمين احتجُّوا بالحديث.
وكذلك إذا خلط الباحث بين الاستشهاد والاحتجاج، وانتفى عنده التَّفريق بينهما، فيقع عنده اضطراب عرض واضطراب نتيجة وحيرة في الرَّأي، إذ عدم التَّفريق يوقع في الخلط والخبط.
وبرهان هذا أبو حيَّان هو من دعاة منع الاحتجاج بالحديث، وهذه كتبه النَّحويَّة ترد فيها الأحاديث النَّبويَّة، فكيف صنع هذا؟ وما وجه ذلك؟! وليس أمره كما قال أحد الباحثين الكبار: إنَّه انخدع بقول شيخه أوَّل أمره، ولمَّا أن زال عنه ما غشيه من الخديعة روَّى كتبه النَّحويَّة بالأحاديث النَّبويَّة. أقول: هذا غبشٌ في النَّظر تنزَّه عنه الكتب الأكاديميَّة والبحوث العلميَّة، ولكنَّ حقيق أمره أنَّ أبا حيَّان يمنع الاحتجاج ولا يمانع من الاستشهاد، وإذا الباحث لم يفرِّق بينهما تنظيراً اختلط عليه الأمر تطبيقاً، وحار في صنيع العلماء تصنيفاً، وحينئذٍ ما جاء بجديدٍ بهذا الخصوص، بل وقع في حيرة.
المنهجيَّة والهامشيَّة والشَّكليَّة
دأب بعض الفاحصين إذا لم يجد مثلباً على البحث المفحوص بحثه، وكان البحث أو عنوانه ليس على وِفاق هواه أن يتعلَّق الفاحص بمسكوكات لفظيَّة مكرورة للثَّلب والتَّنقُّص، كالثَّلب بالهامشيِّ، وفي ظنَّي أنَّ ذلك اللفظ ابتُذِل من كثرة الطَّرق عليه والتُفِظ من عديد اللياذ به، وعندي أنَّ الرَّدَّ بمثله منقود، وذلك إذا وصم البحثَ المحكَّمُ بأنَّ ما فيه هامشيٌّ وغير علميٍّ، أو أنَّ النَّقد الوارد فيه هامشيٌّ، فالنَّقد بالهامشيَّة وغير العلميَّة هو نقدٌ هامشيُّ، وهو نقد مشجبيٌّ، وهو وإن أراده طعناً غير أنَّه في حقيقته نقدٌ ليِّن كما سأبيِّنه؛ لأنَّه لو كان له حقيقة وكان قويّاً بيِّناً غير عَمِيٍّ عنده لكان أن ذكر موضع الهامشيَّة وما عمَّاه وأخفاه بظلِّ الهامشيَّة، ووقف عند لفظ النَّاقد المنقود أو العبارة النَّاقدة المردودة، وبيَّن صحَّة النَّقد وقوَّته وعلميَّته وموضع الهامشيِّ وغير العلميِّ وبيان نقص قيمته.
كذلك ممَّا يقع به الفاحص وربما يعتذر به، بعد أن يُنصِّب نفسه محامياً عن صاحب الكتاب المنقود أو عن البحث المنقود بأن يحكم على النَّقد أنَّه نقد للمنهجيَّة، وأنَّ نقد المنهجيَّة لا قيمة له، والاحتجاج بأنَّه نقد عامٌّ، ورأي شخصيٌّ من النَّقد=وهذا ممَّا أُورِد عليَّ من أحد الفاحصين.
[متبوع]