د.قيس بن محمد المبارك
هذا العنوان كلمةٌ قالها الإمام الغزاليُّ رحمه الله، ذلك أنَّ الأصل في كلِّ علمٍ أن يكون مبنيَّاً على أصولٍ وقواعد، فالأصول أدواتٌ لضبط منهجية الاجتهاد، فعِلمُ الفقه مثلاً، بُنيَ على عدد من الأصول، كحمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص، وكقواعد ترجيح نصٍّ على آخر، والتمييز بين الدلالات، كدلالة الاقتضاء، والإشارة، والتنبيه والإيماء، ودليل الخطاب، وتحقيق المناط وغيرها، فالفقه والحديث والتفسير والهندسة والرياضيات والطب، كلها علوم تقوم على أصول، والأصل في كلِّ علمٍ أنْ يكون بناؤُه قائماً على أكثر من مدرسة، كي تتسع مسالكُ الاجتهاد، فلا تُقيَّدُ بمدرسة واحدة.
فأهل السنة، لهم في الفقه أربع مدارس، هي طُرُقٌ للتَّعبُّد، وهي المدرسة الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، وكلها تستند إلى أصولٍ معتبرة، ولكل واحدةٍ منها أصول فرعية، فليس في هذه المدارس أصلٌ فاسد، كنَفْيِ القياس أو غيره، ولهم في العقيدة ثلاث مدارس، الأشعريَّة والأثَريَّة والماتريديَّة، كما قال الشيخ شمس الدين السفَّاريني وغيرُه، وهكذا الأمر في مدارس الحديث والتفسير وأصول الفقه، وإنما يُنسبُ للمدرسةِ مَن دَرَسها إلى أنْ صار عارفاً بها، ففي الفقه لا يقال فلانٌ مالكيٌّ، إلا إذا كان بصيراً بالمدرسة المالكية، قادراً على الفتوى فيها، أما غير المتخصص فلا يُنسب إلى مدرسة، وإنما يأخذُ بِقول مَن يفتيه.
ولكلِّ مدرسةٍ أصولٌ يَترسَّمُها مَن أراد أن يكون مجتهداً فيها، فالأصولُ هي الأقدام التي تسير عليها المدرسة، فهي درَجاتٌ تنمو بها وترتقي من حالٍ إلى أعلى.
والأصل في كلِّ مدرسةٍ أنْ يكون بناؤها قد استوى على سُوقه، بعددٍ من العلماء، يتعاقبون على بنائها من عصر إلى آخر، فالعلمُ تراكميٌّ، فليست المدرسةُ رأياً انفرد به عالمٌ، فمهما اشتدَّ ذكاؤه واتَّسع عِلمه، فأين هو مِن تأسيس مدرسة، فإنْ ادَّعَى أحدٌ أنَّه مجتهدٌ وأنَّ له أصوله التي يستند إليها في اجتهاده، فالذي يظهر لي أنَّه بلغ من الغفلة مبلغاً يصعب بسببه إفهامُه أنَّه ليس أهلاً لتقليد مدرسة، فضلاً عن الاجتهاد.
إنَّ مَن أَدْمَن القراءة في كتب الطبِّ، من غير أنْ يكون على علمٍ بمبادئ الطبِّ، ولم يتعلَّم في مدرسةٍ طبيَّةٍ معتبرة، لا يقال عنه طبيب، فمهما كَثُرَتْ قراءاتُه واتَّسعتْ دائرةُ معارفه، فغاية ما يمكن أن يقال عنه، بأنه ذو ثقافةٍ طبية واسعة، وغايةُ ما يمكن أنْ يقال له «عَشَّاب».
أما مَن درس الطبَّ على مدرسةٍ، فإنَّ له أنْ يداوي مرضاه، ويُجري عمليَّاته الجراحيَّة، مستنداً إلى أقوال المدرسة التي تعلَّمها، وليس له أنْ يداوي المرضى حسب مدرسةٍ أخرى لا درايةَ له بها، وكذلك ليس له أنْ يقول إنه درس حسب المدرسة الفرنسيَّة، غير أنَّه سيتطبَّبُ في المرضَى بما يراهُ صواباً، مِن غير أن يلتزم بضوابط المدرسة التي درسها، فلسان حاله ومقاله «لن أبيع عقلي، فأنا رجلٌ وهم رجال» إنَّ من يعرف قدرَه وقدْرَ علمِ الطبِّ ودِقَّ مسائله، لا يرضى لنفسه أنْ يقول هذا الكلام.
فما أعظم جناية مَن يتصدَّى للتَّطبيب، ولسان حاله: «سأجتهد رأيي في فتح بطن المريض، فإنْ أخطأتُ، فَلِيَ أجرٌ واحد، وإنْ أصبْتُ، فَلِيَ أجران» فأيُّ عاقل يَرضى أنْ يقول هذا القول! بل وأيُّ مريض يرضى بتسليم بدنه إلى أمثال هذا، وهذا هو الشأنُ في كلِّ فنٍّ وصنعة، فلكل علمٍ حُرمةٌ يجب أنْ تُرْعَى، فمَن تكلَّم في علمٍ لَمْ يدرس مبادئه، فهو مُتَعَدٍّ، كما قال الإمام أبو سليمان الخطَّابي: (والمتعاطي علماً أو عملاً لا يَعرفه، مُتعدِّي).
فأقوالُ هذا المتعاطي أقربُ إلى الحدْس والتخمين، بل هو تخريصٌ وحَزْرٌ، فهو انطباعات شخصية، لاستناده إلى الثقافة أو المزاج العام، فهذا هو الشأن في كلِّ مَن يقولُ قولاً، مِن غير أنْ يكون له به درايةٌ، فلا هو بالمجتهد المطلق الذي له أصولٌ منضبطةٌ يترسَّمُها ويسيرُ عليها، ولا هو مجتهدٌ في مدرسةٍ معتبرة، يتخذ أصولها مستنَداً له، ولا هو مُقْتَدٍ بمدرسةٍ معتبرة، ولا هو آخذ بقول فقيهٍ، يَثق بعلمه ودينه، امتثالاً بقول الله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، فهذا كحاطب ليل، يَخرج ليلاً ليحتطب، فلا يدري أين تقعُ يَدُه، وآكدُ العلوم هي العلومُ الشرعيَّةُ، فالطبُّ وُضع لسلامة البدن، وسلامةُ دِينِ المسلم أهمُّ عليه مِن بَدَنِه وآكد.
وهبْ أنَّ رجلاً لم يدرس مصطلحَ الحديث الشريف، ولا في علوم الحديث، أخذ يقرأ في كتب الحديث لمعرفة أقوال العلماء على بعض الأحاديث، لمعرفة صحيحها مِن عدمه، وقرأ بعد ذلك في كتب الجرح والتعديل، فحصلَ له بعضُ معرفةٍ، فظَنَّ أنَّه أهلٌ للتخريج، فمثل هذا:
ربما ظنَّ أنَّ أئمة الحديث كأصحاب المسانيد والسنن والآثار، بلغتْ بهم الغفلةُ مبلغاً زلَّتْ بسببه أقدامهم، بإدخال الضعيف في كتبهم.
وربما هرعَ إلى صحيحَيْ البخاري ومسلم، تصحيحاً وتضعيفاً، فهذا الرجل قد فاتَهُ -بحُكم عدم قراءته مبادئ مصطلح الحديث - أنَّ صحَّة أحاديث الشيخين، لا تَخفى على مبتدئ في علمٍ الحديث.
وربما ظنَّ أنَّ الحديث الضعيفَ كالموضوع في عدم الاعتداد به.
وربما عَلِمَ بعد مُضِيِّ زمنٍ، أنَّ بين الضعيف والموضوع فرقاً، غير أنَّه بقيَ على ظنَّه أنَّ الضعيفَ على درجةٍ واحدة، ولم يَعلم أنَّ منه ما هو أقرب للموضوع، ومنه ما هو معتبر في فضائل الأعمال، ومنه ما هو معتبر في الترجيح، ومنه ما هو أَولَى من القياس عند بعض العلماء، فللعلماء فيه تفصيل، ولا تسلْ بعد ذلك عن ما يمكن أنْ يقع فيه مِن شطحات.
ثم هبْ أنَّ رجلاً لم يقرأ كتاباً في الفقه، سعى للإمامة في أحد المساجد، استناداً إلى أنَّ جُلَّ رُوَّادِ المساجد من غير أهل الاختصاص في الشَّريعة، يَسهُل عليه اصطيادهم والتغرير بهم، فيقول لهم: إنَّ الله تعبَّدنا بالكتاب والسُّنَّة، وكلاهما بلسان عربيٍّ مبين، فلا يجوز أنْ نُسلم عقولَنا لأحد، فاستدرجهم لِيُسلموا عقولهم له، بدعْوَى أنَّ المدارس العلميَّة الأربعةَ أقوالُ رجال، وأنَّهم ليسوا بأولَى منه، فأوْهَمَ المصلِّينَ أنَّ واجبهم تَرْك الاقتداء بالمدارس المحرَّرةَ، تقليداً له.
وهكذا أوهم العامَّةَ أنَّ المدارس المحرَّرةَ قسيم الكتاب والسُّنَّة، وأنَّ الاقتداء بها تقليدٌ ممقوت، وأنَّ فهمه بمنزلة الوحي، وصار يُلقي عليهم دروساً في ذلك، كقول الإمام أبي حنيفة رحمه الله: (إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي) ظنَّاً منه أنَّ الإمامَ يخاطب أمثالَه.
وهب أنَّ رجلاً قرأ في كتب المدارس الفقهية فاتَّسعت معارفة، فظنَّ أنهَ مجتهد، وليس من أهل التقليد، ولا من أهل الترجيح، ففسَّرَ آيةً، أو شرح حديثاً، أو كتب كتاباً في الفقه، في كيفية الزكاة، أو في صفة حج النَّبيِّ صلوات ربي وسلامه عليه، من غير أنْ يذكرَ أصولاً، له أو لغيره، فهل يُتصَوَّر أنَّه قد وَضَع الكتاب والسنَّة أمامه، ثم أخذ يستنبط الأحكام منهما مباشرة! أم أنَّه وضع كتب المدارس المحرَّرة أمامه، ثم أخذَ مسائل الحج منها، ورتبها بنفس ترتيب تلك المدارس، ثم نقَلَ الأدلَّة من كتبهم، ثم اختار قولاً منها، وذَيَّله بهده العبارة: (هذا هو الراجح والصحيح، والذي عليه الدليل) لا أشُكُّ في أنَّ العامِّيَ سيفهم أنَّ الأقوال الأخرى لا دليل لها.
وهب أنَّ رجلاً آخرَ، شعاره: «العودة إلى كتاب الله» فقرأ القرآن كما يقول قراءة معاصرة، ففسَّرَ قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} بأنَّ الحج يمكن أنْ يكون في أيِّ يومٍ من أيام الأشهر الحرم، بدعوى أنَّه هكذا فهم النصَّ، لهُ الحق في الاجتهاد، إنَّ مثل هذا لا أظنُّ أنَّ أحداً يقدر على إفهامِه أنَّه ليس أهلاً لذلك.
كلا الرجلين يفسِّر النُّصوصَ من غير أصول يهتدي بها، وقد ظهر لي فرقٌ واحد بينهما، وهو:
أنَّ أحدهما طابق قوله فعله، فأخذ يفسِّر الآيات مستنداً إلى الثقافة والمزاج العام، فهو متَّسق مع نفسه في انحرافه وشذوذه الذي قد يصل به إلى الإلحاد، وقد هنا للتكثير، وليست للتقليل.
وأما الآخر، فخالف دعواه، فاستفاد مما كتبه أصحاب المدارس الفقهية، وربما خالفهم، فقلَّد ابنَ تيمية رحمه الله، فيما انفردَ به، فكان بهذا قد خالف شرطه، فوسَّط الرجال بينه وبين النُّصوص.
إنَّ الفقه شأنُه عظيم، وقَدْرُه جليل، والشيءُ كلما عَظُمَ قدْرُهُ واشتدَّ خَطَرُهُ احتِيطَ في القول فيه، والفقه مفرَّعٌ على قواعد وأصول علمية دقيقة، وإنَّ مِن شروط صحَّة الفتوى وجودَ تطابقٍ بين الواقعة وبين الحكم، استناداً إلى أنَّ الحكم الشرعيَّ نَزَل معلَّقاً على واقعٍ مشخَّص، فلا يصحُّ تنزيل الحكم إلا على الواقع المطابق له، وهذا ما يُسمَّى ملاحظةُ الواقع أو تحقيق المناط، ويكون ذلك بالنظر في الواقعة، لمعرفة طبيعتها وسِماتها وأوصافها ليَنزلَ الحكمُ عليها بتطابقٍ تام، وهذا الذي حالَ دون أنْ تكون أحكام الفقه متناثرةً متنافرة، كالقوانين الوضعية، فبهذه الضوابط للفقه تنضبط الأحكام، ويرى الناسُ في الفقه نضارتَه ورونَقَه، وما كان هذا إلا أنَّ الفقهاء على درايةٍ تامَّة بأن ضبط الفقه، هو سرُّ تَطوُّرِه ونَمائه، وهو الحافظ له مِن العبث، وهو الحائل دون الفوضى في القضاء أو الفتوى، التي صرنا إليها باستبدال المدارس المستندة إلى الكتاب والسُّنَّة بأقوال المتصدِّرين للفتوى، وكلُّ متصدِّرٍ يرى نفسَه مدرسةً تمثِّل منهج السلف، وصاروا مذاهب مختلفة، فشملت أعدادهم وألوانُهم ألوانَ الطَّيف، من أقصَى اليمين تطرُّفاً إلى أقصَى اليسار تفريطاً.
وأختم بقول الحافظ أبي بكر ابن العربي -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} قال:
(تَعلَّق قومٌ بهذه الآية في ذم التقليد، وقد ذكر الله سبحانه ذمَّ الكفار، باتباعهم لآبائهم بالباطل، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية في مواضع من القرآن، وأكد النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك، وإنما يكون كما فسرناه، في الباطل.
فأما التقليد في الحق فأصلٌ من أصول الدين، وعصمةٌ من عِصَمِ المسلمين، يلجأ إليها الجاهلُ المقصِّرُ عن دَرْكِ النَّظر.
وقد اختلف العلماء في جوازه في مسائل الأصول، فأما جوازه، بل وجوبه في مسائل الفروع فصحيح، وهو قبول قول العالم من غير معرفة بدليله، ولذلك منع العلماء أن يقال: إنا نقلد النبي صلى الله عليه وسلم، لأنا إنما قبلنا قوله بدليل ظاهر وأصل مقطوع به) وهذا الأصل المقطوع به، هو المعجزة، كما قال القرطبي.
أسأل الله أن يجعل سلوكنا على هدْيِ سلفنا الصالح، سويَّاً مُتَّسِقَاً، لا عِوج فيها ولا أَمْتًا، وأن يزيل عن بصائرنا حجاب الجهالة والغفلة وأن يكشف عنها غياهب الهوى والرَّين، والحمد لله رب العالمين.