حامد أحمد الشريف
لا أعلم السرّ وراء الجمع بين المتناقضات التي استهلَّ بها الكاتب والروائي السوداني محمد الطيب روايته الجديدة الصادرة عن دار مدارك هذا العام 2023، وتقع في 183 صفحة من القطع المتوسط. وكانت بداية هذا التناقض المستفزّ للقارئ، مع العنوان، عند جمْعه بين التكريم والاحتفاء الذي نقرأه في مفردة «رُكن» التي درجنا على استخدامها لهذا الغرض، من جهة، والمغضوب عليهم الضالّين أو مَن نصفهم عادةً بالـ»منبوذين»، من جهة أخرى؛ فالمهمَّشون أو المستبعَدون يُفترض ألا يهتمَّ بهم أحد، خلافَ صعوبة جمعهم في أحد الأركان، فما بال «الطيب» يجمعهم ويحتفي بهم؟! وكيف وافقوه على ذلك وهم الناقمون على مجتمعاتهم التي لم تلتفتْ إلى قدراتهم وإمكاناتهم، وتجاهلتهم ونبذتهم؟! ما يعني نفورَهم من هذا الوصف، وعدم إمكانيّة جمعهم تحت رايته؛ وهو ما يجعل العنوان محفِّزًا ومستحوذًا، ويشي بخطٍّ فلسفيٍّ معيَّن تنتهجه الرواية ويفسِّر هذا التناقض. ولعلّي أقول هنا، إنّها بدايةٌ موفَّقة، بل رائعة! فمثل هذه العناوين الإبداعيّة هي ما تبحث عنه السرديّات، كونها تثير في داخلك نهَمَ المعرفة، وتدفعُك لتتبُّع السّرد بحثًا عن إجاباتٍ للاستفهامات التي تهَيْمن عليك وتستمطر تخيّلاتك وتحليلاتك.
وكانت المفارقة الثانية في الإهداء الذي حمل أيضًا تناقضًا مُربِكًا، يشي بفلسفةٍ أخرى للمؤلِّف، تُجبرنا على التوقُّف والتأمُّل، حيث يهدي الكتاب «إليها» قائلًا: «في حضورها الحضور وفي غيابها الحضور». والسؤال هنا كيف تحضر عند حضورها وغيابها؟! طبعًا لم يكن يعني حبيبته بهذا «الحضور»، بل قصد بذلك مشاعرَ وجْدِه وحبّه لها التي تبقى حاضرة إن غابت حبيبته وإن حضرت، وهو الإحساس الجميل الذي يشير إلى عمق المشاعر التي يكتنزها هذا القلب المحبّ الذي يعيش مع محبوبته في حضورها وغيابها، ولا ينفكُّ عن التفكير والانشغال بها؛ ما يعني أنّنا أمامَ ثنائيّةٍ إبداعيّةٍ متروكٌ فهمُها وتذوُّقُها للقارئ الحصيف.
كلّ ذلك، بالطبع، يُشعرنا أنّ السرديّة تنهج هذا النهج الفلسفيّ الذي يدعو لاستحضار كلّ أدوات القارئ بُغية سبر أغوارها، فالمعركة - فيما يبدو - حامية الوطيس، ولن يكون النصر فيها سهلًا، خاصّةً وأنّ العمل بدأَ بعبارةٍ استهلاليّةٍ غايةً في الجمال لـ «تشي جيفارا»، يقول فيها: «إنّ الطريق مظلمٌ وحالك، وإذا لم تحترق أنت وأنا فمن سينير الطريق؟» ولم تكن هذه العبارة لتقلَّ دسامةً عمّا سبقها، وهي تخبرنا عن حاجتنا إلى حرق أنفسنا حتّى نستطيع السير في دروب الحياة، إن لم تكن هي مَن تحرق بعضنا كي يحيا الباقون. فهل السرديّة تُحدِّثنا عن معانٍ كهذه؟! هذا ما يمكن معرفته بعد الانتهاء منها.
ولعلّي أقول، بدايةً، إنّه من المفارقات العجيبة إحساسي بأنّني خُدعت مرّةً أخرى في قراءة روايةٍ تتحدّث عن موضوعات لا أحبّذها! فأنا لا أهتمُّ بقراءة السرديّات التي توثِّق وتؤرِّخ لحِقَبٍ أو أحداثٍ معيّنة؛ بالضبط كما حدث معي في رواية «حامل الصحف القديمة» لـ «إبراهيم عبدالمجيد». ولكن، يظهر أنّ كلاهما استطاع باقتدارٍ توظيف الحالة المستهدَفة، والانطلاق من خلالها نحو الأبعاد السرديّة التي ينشدها. فـ «محمد الطيب» في روايته الجديدة «ركن المنبوذين»، استخدم، هو الآخر، الحالة السياسيّة التي عاشتها السودان قبل الربيع العربي وبعده، كفضاءٍ زمانيٍّ وذاكرةٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ انطلق منها للتعريف بحقبةٍ مهمّة جدًّا لا يزال تأثيرُها ظاهرًا؛ أو لعلّها تكون فترةَ ما بعد الاستعمار التي حملت أبعادًا معيّنةً في معظم الدول العربيّة. لكنّه، لم يوقف السرد عليها - بالضبط كما فعل «عبدالمجيد» - ولم يستخدمها لأحاديثَ سياسيّة غير مقبولة لا تخلو من الكذب والتزييف والخداع الذي عادةً ما تشتهر به السياسة، ولم يوظِّف تِقَنيّة السرد التخيُّلي لتصفية الحسابات بين المتصارعين، أو استعمال قلمِه لمناصرة أحد الفرقاء، وإنّما امتطى صهوتها وأمسكَ بمقودها للوصول إلى الحالة الاجتماعيّة المرافقة لها، من خلال أبطاله في «ركن المنبوذين» الذين قادوا هذا الحراك، أو لنقل، كانوا الحطب الذي أشعل الثورات المتعاقبة، وتحوّل إلى رمادٍ أو أعوادٍ احترق جزءٌ كبيرٌ منها فتشوّهت وانعدمت فائدتها.
ولقد كان المؤلِّف ذكيًا في الذهاب باتّجاه الغوص في أعماق هؤلاء الشباب والكهول، لاستظهار الجانب الخفيّ من حياتهم، ومدى انعكاس ذلك على نفسيّاتهم، وعلاقته بتوجّهاتهم السياسيّة والاجتماعيّة والعاطفيّة، أي أنّه اجتهد لإظهار الصورة غير الظاهرة غالبًا لدى البشر ولا يهتم بها أغلبنا؛ فنحن لا نرى، عادةً، من المحيطين بنا، إلّا ظاهرهم فقط، وقد نتعمّد ذلك هربًا من الواقع السيّئ الذي قد يصادفنا لو تجاوزنا القشرة السطحيّة، إذ ليست الملابس وحدها ما يواري سوأتنا، بل زيفُ المشاعر قد يكون أكثرَ سترًا لنا؛ بينما الصورة الحقيقيّة أكبر من ذلك بكثير، والحياة غالبًا ما تقوم على هذا الجزء المهمَل أو الخفيّ من حياتنا، أو لنقل، إنّ دواخلَنا وأعماقَنا النفسيّة هي التي تصنع حاضرَنا ومستقبلَنا وترعى إنجازاتِنا، بينما المظهر ينحصر دورُه في تسويق كلِّ ذلك والتكسُّب منه. ولعلّ دواخلَنا تمثِّلُ بالفعل الجزءَ المنبوذ من حياتنا، فأغلبُ البشر، وعلى مدار التاريخ، يصرفون جهدَهم ووقتَهم على أمورٍ شكليّة، ويُغفلون الجوهر، وهو ما جعل الأديانَ والتوجُّهاتِ الفكريّةَ والفلسفيّةَ تجتهدُ لإعادتنا إلى هذا الجزءِ المنبوذ، وتشتغلُ عليه.
إنّني وقد وصلت إلى هذه الحقيقة، لأكادُ أجزم أنّ «الطيب» إنّما اتّخذ من هذا النبذ للأشياء الرائعة التي تعتملُ داخلَ أنفسنا وتُظهر قيمتَنا الحقيقيّة، فضاءً سرديًا كبيرًا يحمل أبعادًا نفسيّةً جميلة، تُطلعنا على أنماطٍ مختلفةٍ منَ الشخصيّات المنتقاة بعناية، بتوجّهاتها وصراعاتها الداخليّة والخارجيّة، والعلاقة التي تربطها بمحيطها، والتحوُّلات التي عاشتها مع سيرورة الحياة. وقد برع في ذلك بشكلٍ كبير، وأجادَ في تقمُّص كلّ شخصيّة من هذه الشخصيّات، وأظهرَ بصدقٍ ما لها وما عليها، مستخدمًا الراوي العليم بكلّ أبعاده السرديّة المسموحة في المساحة الكبيرة التي يمتلكها، وجيَّرَهُ لتحقيق هدفه الأسمى. وإنّي لأظنّه قد نجح بشكلٍ كبير في مبتغاه، عندما أطلق يده في الحكي سامحًا له وصف هذه الصراعات الإنسانيّة الداخليّة بدقّة، وفلسفتِها، والانطلاق من خلالها للغوص في ثنايا الشخصيّات، والإضاءة على الحوارات الجميلة التي حفلت بها الرواية، ممسكًا دفّةَ السّرد باقتدار، بل ذهب أبعد من ذلك، بتبريره الأحداث الاجتماعيّة والسياسيّة وما تبعها من صراعات... أي أنّ المؤلِّف خاطر بإسناد مَهمّة التفكير والتحليل والاستنباط للراوي العليم، وسمح له بالنهوض بكلّ الوظائف العقليّة التي يفترض أن ينهض بها القارئ، دون خشيته على السرديّة أن يقتلها قرار كهذا! وهو ما نجح فيه بالفعل، فالتلقّي لم يتأثّر مطلقًا بهذا التوجُّه الحكائيّ الذي قد ينفر منه البعض، إذ يقطع صلته بالسرد؛ وهو ما جعل من حديث الراوي العليم وفلسفته للمواقف، رغم استفاضته، شيئًا لا يُذكر في موازاة ما تنطق به هذه المواقف من رؤى، وأفكارٍ، وزوايا تلقّ إبداعيّةٍ أخرى غير مطروقة، يمكن من خلالها استحضارُ عقل المتلقّي وربطُه بالصراع.
إنّ هذا الصراع المرصود بدقّة، والموظَّف بعنايةٍ فائقة في رسم الأحداث والنهايات والتلاعب بها، ظلَّ يحتملُ الكثير من الجوانب التفسيريّة التي تَغافلَ عنها الراوي العليم، رغم حديثه المطوَّل عن كلِّ المواقف والصراعات، وردّات الفعل والقرارات التي يتّخذها أبطال روايته. وكان السرد ذكيًّا في ذلك، بإثارة بعض الإضاءات الفلسفيّة التي تدعو للتفكُّر، وتتجاوز ما يصرِّح به العليم. وكأنّها أتت عمْدًا في سياق إشراك القارئ في هذه المنهجيّة الفلسفيّة، وإظهار هذه الشراكة في التلقّي، من خلال ترك مساحة كبيرة للتفكير والتأويل يختصُّ بها القارئ وحده بعيدًا عن العليم الذي نراه في حالات كهذه يكتفي بمنطوقها فقط ويصمت بعدها؛ وبدا كأنّها هديّته للقارئ، حتّى يُشغل تفكيرَه فيها، ويتلمَّظ جمالَها، ويسرح مع معانيها وتجلِّياتها. ويمكن رؤية ذلك في الإسقاط السياسي الجميل عندما أظهر المرأة المسنّة «العازة» وكأنّها السودان، من خلال أسماء أزواجها الثلاثة: إبراهيم وجعفر وعمر. ويبدو أنّ ذلك لم يأتِ مصادفةً بل كان مقصودًا، ويرمي إلى الرؤساء السودانيّين العسكريّين المتعاقبين بعد الاستعمار، وشكَّلت فترات حكمهم العسكريّ تحوّلًا محوريًّا في تاريخ السودان، وهم: إبراهيم عبود وجعفر نميري وعمر البشير؛ هذا خلافَ أهمّيّة اسم «العازة» نفسه في السودان، ودلالاتِه السياسيّة، فهو يشير، يقينًا، إلى عازة محمد عبدالله التي تعَدّ أوّل امرأةٍ سودانيّةٍ في تاريخ السودان شاركت في الأنشطة السياسيّة، وقادت مظاهرةً في عام 1924م، وأيضًا لا تخفى علينا الدلالات التي يحملها صبيّ القهوة إسماعيل الذي يشير - فيما يبدو - إلى أوّل حاكمٍ مدنيّ قاد السودان بعد الاستعمار، وأعني به إسماعيل الأزهري.
ظهَرَ هذا العمق المثري أيضًا من خلال الوصف الجميل لما كانت تفعله صباح عطالله بالرجال، في قوله: «وهكذا خلقت أسطورتها الخاصّة في أتِنـَيْ، كأنّها طاولة القمار التي يخرج الجميع منها خاسرًا، ولكنّه لا يزال يرغب في العودة غدًا لتجريب حظِّه مرّة أخرى..» (ص82). ووجدنا ذلك أيضًا في بعض العبارات الفلسفيّة الجميلة التي حقّقت هذا الهدف بامتياز، كقول الراوي العليم في ص96: «أفضل ما يجب فعله بعد الخسارة في الحبّ هو الاستسلام لهذا الحزن حتى يخفت ويذهب ولا يبقى منه في القلب إلّا مثل أثر الجرح القديم على الذراع، ندبة صغيرة تلمع كلّما سقط عليها ضوء الشمس». أو قوله في موضع آخر من الصفحة نفسها: «ربّما المنطق الوحيد في لعبة الحياة، هو أنّه لا منطق لها».
وظهر ذلك أيضًا في استخدام بعض العبارات الدارجة المستقاة من أعمالٍ إبداعيّة عالميّة، دون الخوض في تفاصيلها وإيضاح مقاصدها، كالعبارة الشهيرة: «حتى أنت يا بروتس» التي وردت في مسرحيّة «يوليوس قيصر» لـ»وليم شكسبير»، حين قالها الديكتاتور الروماني «يوليوس قيصر» لصديقه «ماركوس يونيوس بروتس» لحظةَ اغتياله، عند اكتشافه خيانته له؛ وقد دَرج استخدامُها للدلالة على الخيانة غير المتوقَّعة من قِبَل صديق. وكان الكاتب قد أوردها في الصفحة 108 على لسان «منذر الساتي» وهو يخاطب ابن حارتهم «ربيع»، عندما اكتشف خيانته للحراك الشعبي، وانضوائه تحت لواء الحكومة، من دون أن يفسِّر مغزاها ولو بكلمة؛ حتّى عندما أراد أن يصفه بالـ»مرتزِق» لم يذكر ذلك صراحة، بل اكتفى بتشبيهه بالفيلسوف اليوناني الشهير «زينوفون» الذي عُرف كجنديٍّ مرتزِق رغم قيمته التاريخيّة والفلسفيّة، ولم يشفع له كونه أحد طلّاب سقراط ليُبعدَ عنه تهمة انتهاج الارتزاق والاستجداء المقنّع المريق لماء الوجه. كما أورد مفردات سودانيّة غير معروفة خارج السودان، من دون استخدام الهوامش أو حتّى بيان معناها ضمن سياق الكلام، كـ»الخشاف» و»السكروتة» و»الكونغولية» و»شلوخها المطارق»... وأظنّه أراد من ذلك استحضار القارئ العربي، بالمنهجيّة التي أتحدّث عنها.
تكرّر ذلك أيضًا في حديث «عم الشمباتي» الجميل عن الحبّ والزواج، في قوله ص119: «لا ينتصر الحبّ بالزواج، ولكن الزواج يعدّ دليلًا أكيدًا على صدق الحبّ». وجدنا ذلك أيضًا في حديث الراوي العليم عن الحبّ عندما طرح سؤالًا غايةً في الأهمّيّة: في قوله: «تُرى ما هو الحبّ؟ وهل توجد معايير علميّة تصلح لقياس شدّة الحبّ وقوّة تأثيره؟» (ص125) ومع أنّه لم يتجاوز هذا السؤال الفلسفيّ، وحاول الإجابة عنه، إلّا أنّ إجابته لم تُغلق الباب في وجه مَن يريد إشغال عقله والتفكير بشكلٍ أكبر في هذا الأمر، يظهر ذلك في قوله مستطردًا: «العلم يعتمد على أداة الملاحظة والمعاينة والمقارنة في استنباط الحقائق وما لا يقاس ولا يرى ولا يلمس في عرف العلم غير موجود، وهذا قصور في أدوات العلم وطرق استنباطه. فلتبحث عن أداة لرصد الذكريات، وهمس الأحلام، ونبض الأمنيات، وتقارب الأرواح، وقلق الأمهات، وشوق العشّاق، وحزن الفقد، وفرح اللقيا»... كلّ ذلك يقودنا إلى فهم أنّ المساحة المتروكة لعقل القارئ للتفكُّر تتجاوز ما صرّح به العليم بكثير، وتُجبرنا على قبوله، وهي المنهجيّة ذاتها التي تكرّرت كثيرًا في منعطفات الحكي، كحديث «عادل الكيلك» مع «عاطف الخزين» وهو يبرِّر إحجامَه عن إظهار قراره بالارتباط أو التخلّي عن سعاد في حال أقدمت بالفعل على الانفصال عن زوجها، بهدف دفعها لاتّخاذ قرارها بنفسها وتحمُّل تبعاته، إذ قال له: «القرارات المصيريّة في الحياة لا تُتّخذ مقابل بديلٍ آخر، ولكن وجود البديل يحوّلها إلى مجرّد خيارات محتملة». (ص177)
وجدنا ذلك أيضًا في بثّهِ بعضَ المفردات العلمّية بدون تفسيرٍ أو توضيحٍ يوصل معناها، حتّى ضمن السياق، بل تركها لثقافة القارئ، كما لرفع درجة التلقّي لديه؛ منها توظيفه مفردة «يوتوبيا» التي تعني المدينة الفاضلة أو الحالة المثاليّة، أتى بها السّارد على لسان العليم في قوله: «ويحيل سلمى ليوتوبيا، تفرّ إليها كلّما ضاقت بك الحياة.» (ص 128). ولقد تكفّل كلّ ذلك بالإنصات للراوي العليم دون تضجُّر، بل الاستمتاع بكلّ ما يقول، في وقت لم يتوقّفِ العقل عن النهوض بدوره؛ وهي ثنائيّة إبداعيّة يصعب النهوض بها وجمعها في مساحةٍ ضيّقة كهذه، لكنّها وُجدت بالفعل مع هذا العمل.
ويمكننا القول ببساطة، إنّ العليم بدا وكأنهّ أبٌ حكيم، يجتهد لنُصح أبنائه وبيان ما يقعون فيه من أخطاء، ويبصِّرهم بطريق النجاة؛ أو كمفكِّرٍ يذهبُ إلى أحد الاجتماعات أو الندوات ويُدلي بدلوه، محاولًا تصوير الموقف من وجهة نظره، من دون تأثُّرٍ ببقيّة المفكّرين والفلاسفة الذين دأبوا على تناول المواقف ذاتها بطريقةٍ مختلفة. فكان العليم حصيفًا في قدرته على قول كلّ شيء وعدم قوله لأيّ شيء.
وبالعودة إلى «رُكن المنبوذين» وفهم الغاية من استخدامه كعنوانٍ عريض لهذه السرديّة، ينبغي أن نفكِّرَ بالطريقة ذاتها التي انتهجها المؤلِّف في قدرته على الجمع بين المتناقضات وتبريرها، لنقول: إنّ الكاتب - فيما يبدو - لم يكن يهدف لحصر النبذ في أولئك النَّفَر الذين لفظتهم مجتمعاتُهم، رغم حاجتها إليهم، وتجاهلت إمكانيّة الاستفادة منهم، ولم تُعِرِ الحراكَ الذي يقودونه أدنى اهتمام، رغم إمكانيّة توظيفه لتحريك المياه الراكدة، وإظهار ما يسوءُ المجتمعات وما يجمّلُها، وتجاوُز النظرة الأحاديّة التي غالبًا ما تهيمن على المجتمعات العربيّة، وكذلك نبْذ كلّ ما يخالف تلك النظرة المقدّسة التي يضطلع بها المسؤول وحده، ويسفِّه ما دونها. ذلك يدعونا للقول، إنّ استخدامَ مفردة «رُكن» لوصف مكان اجتماع المنبوذين، خيارٌ موفّق، طالما أنّ المنبوذين - حسب رأي المؤلِّف - هم صفوة المجتمعات، والعين المستقلّة التي ترى المشهد من زوايا مختلفة؛ إضافةً إلى إيمانه بأهمّيّة حضورهم لتعدُّد الرؤى والأفكار والتوجّهات، والاعتماد عليهم في قياس القرارات والتأكُّد من نجاعتها. ولعلّ ذلك يعَدّ ضمن أهمّ مرامي السرديّة، ما يجعلنا نقول، إنّ تكريمهم والاحتفاء بهم من خلال هذا الركن لم يكن مستغرَبًا، بل هو أساسٌ يُفترض أن يكون ضمن أولويّات القائمين على المجتمعات والراغبين في تحسين معيشتها، أو حتّى الساعين لسيادتها.
لقد تقصّدَ «الطيب» الإتيانَ بنماذج متعدّدة، كـ»عادل الكيلك»، و»عاطف الخزين»، و»علي الشمباتي»، و»منذر الساتي» وأخيه «جمال»، والعازة وزوجها المقعَد، ومريم وصباح وسعاد وسلمى... ومَنْحَهم المساحة للتعبير عن توجُّهاتهم وفكرهم وفلسفتهم وحضورهم الكبير، بكلّ متعلّقاتهم النفسيّة والوجدانيّة والفكريّة، مع السماح للراوي العليم بإكمال ما قصر عنه حديثهم... وذلك بهدف إيقافنا على هذه النماذج الإنسانيّة المهمّشة التي غالبًا لا نرى منها إلّا جانبًا واحدًا قد لا يُتيح لنا التعاملَ الجيِّد مع أطروحاتهم ووجهات نظرهم، وربّما قتلها في مهدها، في وقتٍ يسهلُ التعامل معهم، ويمكنُ لنا تجييرُهم لخدمة المشروع العامّ - رغم أخطائهم - باحتوائهم وتوظيفهم بشكلٍ جيّد، أو على الأقلّ، الاستماع فقط لما يقولون، فبعضهم لا يهتمُّ بأكثرَ من ذلك، خاصّةً أنّ العقول الشابّة أكثر نشاطًا وانفتاحًا على الأفكار الخلّاقة التي يمكن تصفيتُها، وانتقاء الجيّد منها، وتجييره لخدمة المجتمع.
ولعلّ المؤلِّف أجاد بالفعل في صناعة تلك النماذج الإنسانيّة المتعدّدة، وأظهرَ تراكُبَ شخصيّاتهم الطبيعيّ، وما يحمل كلٌّ منهم فوق كاهله من همٍّ شخصيّ يفوق في كثيرٍ من الأحيان اهتماماتِه العامّة، بل إنّ انخراطَ بعضِهم في المناشط الاجتماعيّة العامّة، أو ذهابَهم باتّجاه السياسة بصراعاتها القاتلة، إنّما هو هروبٌ من اضطراباتٍ نفسيّة ومشاكل يعانونها، وقد يكون في ذلك نوعٌ من الانتحار بطريقةٍ مبرَّرة ومقبولة وأقلّ ألمًا؛ فـ»عادل» العربيد، رغم انفلاته في العلاقات النسائيّة، يبقى إنسانًا يمتلك الإحساس والشعور الذي يمتلكه غيره، إلّا أنّ الظروف الاجتماعيّة التي عاشها هي التي جعلته على هذا النحو، وهي أيضًا أخرجت لنا «صباح» التي تمثِّل وجه العملة الآخر - باختلاف الجنس فقط - وقد وقعت ضحيّة ظروفٍ اجتماعيّة دفعتها قسرًا لسلوك هذا الطريق الوعر، وهي الحال نفسها التي تكرّرت مع كلّ النماذج البشريّة التي سوّقت لها الرواية باختلاف توجّهاتها ومعتقداتِها... وبذلك يُحسَب للسرديّة اتكاؤُها على حقيقةِ أنّ كلّ البشر الذين نصادفهم لهم حياتهم الخاصّة بكلّ أبعادها واضطراباتها وصراعاتها، ولا يمكن النظر إلى ما يقومون به من أنشطة عامّة، بعيدًا عن ذلك.
بقي القول، إنّ أجملَ ما في هذه الرواية، ابتعادُها عن الصورة النمطيّة التي اعتدنا عليها في الرواية السودانيّة؛ فالإنسان هنا يحضر بقوّةٍ، عوضًا عن المكان الذي طغى وبغى على السرد السوداني بعد «الطيب صالح»، عندما استنطقه وأنسنه في روايته العظيمة «موسم الهجرة إلى الشمال»، ولم يخرس بعدها مطلقًا. وكذلك الحال مع توظيف المهمَّشين من أصحاب العشوائيّات المليئة بالفجور الأخلاقي بكلّ تفصيلاته، أو حضور شخصيّة الدرويش التي بقيت ركنًا مهمًّا بعد رواية «عرس الزين»، وهو ما جعل هذان الأمران سِمةً أساسيّةً في السرد السوداني، قلّ مَن ينجو منها، وإنْ بظهورهما على فتراتٍ، دون ارتباط الحكي كاملًا بها؛ خلافَ الإغراقِ في الفكر الصوفيّ، وحضور الرواية التاريخيّة الصوفيّة عند شريحةٍ كبيرةٍ منهم.
ومع أنّ كلّ ذلك كان جميلًا في حينه، ومنحَ السردَ السودانيّ مزيةً جماليّة، وارتباطًا حميميًّا بالقرّاء، إلّا أنّ الإغراقَ فيه بدأ يأتي بنتائجَ عكسيّةٍ، فحتّى الجمال إن ألفَتْه العين يفقد قيمته، ونبدأ في البحث عن مشاهدَ أخرى أقلَّ جمالًا. هكذا خُلقنا، وهكذا هي فطرتُنا الإنسانيّة السويّة. ولعلّ ذلك قد أتى ضمن أهمّ أهداف «محمد الطيب» الذي حاول الابتعاد عن هذه الجزئيّات، رغم أنّه لم يبتعد كلّيًّا عنها، وإنّما منحَها المساحةَ المقنَّنة التي تُظهر جمالها وتُبعدها عن الابتذال، كأنسنته الجميلة لمدينة الخرطوم، عند قوله: «تبدو الخرطوم في عينيّ عادل مثل أنثى وصلت لسن اليأس وانقطاع الطمث، ولكنّها نثرت كنانة رحمها فأنجبت بنينًا وبناتًا بعدد نجوم السماء، يتمدّد جسدها الرجراج المترهِّل محاذيًا للنيل بفروعه الثلاثة حيث يجتمع اثنان عند تمام سرّتها ليخرج منها الثالثة إلى مصبّه الأخير». (ص 66)
ولم يُغفل أيضًا إحضارَ الإن سان السودانيّ البسيط، والإغراق في ذكر كلّ تفاصيله الصغيرة التي لم يتمَّ التطرُّق إليها بهذا البُعد النفسيّ والفلسفيّ من قبل. وقد نجح بالفعل في ذلك، حتّى أنّ القارئ يذهب بعيدًا في التماهي مع تلكم الشخصيّات، وتحليل تصرّفاتها، لمحاولة فهم أبعادها النفسيّة، وإسقاط فهمه على حياته الشخصيّة، مقارنةً بالصور المتعدّدة والمتباينة التي أظهرها العمل، وأجاد في تعريتها بالحديث المفصَّل عنها.
الآن، وقد بلغنا النهاية، لا بدّ لي من الاعتراف بتلك الحميميّة التي رافقتني طوال القراءة ولم أستطع تفسيرها، في ظلّ تجاهل العمل لنظريّة التلقّي المعروفة التي يوكَل إليها، عادةً، ربطُ القارئ بالعمل، عندما أطلقَ يدَ الراوي العليم في النصّ، ومنحَه فرصةَ تجاوز دوره المعتاد كواصفٍ للحكاية ومصوِّرٍ محايدٍ للمشاهد فقط، سامحًا له بالتفسير والتأويل، والحديث خارج المشاهد، والذهاب بعيدًا في تحليل السلوكيّات، ما يعني الحيلولة دون إسقاط القارئ فهمَهُ الشخصيّ على تلك السلوكيّات والقرارات، بل الذهاب إلى أبعدَ من ذلك بكثير، عندما ترك له المجال للإسهاب في الحديث عن كلّ الصراعات، مستخدمًا لذلك حواراتٍ طويلة قد ينفر منها البعض إذ تبعث على السأم والضيق.
مع ذلك، كان التصاقي بالنصّ ومحبتي له مستغربَيْن، ولا أجد ما يبرّر ذلك غيرَ الاستخدامِ الأمثل للحكي، وسعيِه لفتح أبواب المعرفة والتخيُّل والاستكشاف، وقدرتِه على الجمع بين التصريح والتلميح في سرده، وهي الإستراتيجيّة ذاتها التي اعتمدها في العنوان، ووجدناها أيضًا في الإهداء؛ وإنّي لأظنُّها تكرّرت في تصميم الغلاف الذي قال ذلك مبكِّرًا، وإن لم ننتبه له؛ فرسمة الفتاة والفتى الرمزيّة المستخدَمة كانت مكتملة الملامح، ويمكن الحديث عنها كتكوينٍ فنّيّ يُظهر العلاقة العاطفيّة التي تجمع بينهما، وتَسَبُّبِها في احتراقهما، أو احتراق العاطفة نفسها بعد فترة، نتيجةَ سلوكيّاتهما؛ دون الانتباه للمغزى العميق الذي يشكِّله تفريغهما وإظهارهما على هيئة خطوط ذاهبة باتجاه التلاشي، وتحوُّلها إلى دخان، بينما كانت الشمعة مجسَّدة وفي أوج اشتعالها... لنكتشفَ عند الانتهاء من العمل أنّ العصبَ المهمّ الذي بُني عليه هذا العمل السرديّ الجميل، في ظنّي، يمكن استنباطه من هذه الرسوم الرمزيّة الجميلة، ويتلخّص في أنّ أغلب البشر يأتون إلى هذه الدنيا ويغيبون دون أن نرى منهم إلّا بعضَ الخطوط البسيطة، وربّما نتحسّر على ذلك بعد فقدهم. وهو ما يجعلنا نكاد نجزم أنّ «ركن المنبوذين» إنّما أريدَ لها أن تُظهر العلاقة المضطربة بين «الجوهر والمظهر»، وانعكاسها على حياتنا.