د.عبد العزيز سليمان العبودي
تشمل العلوم الهندسية، العمارة والتخطيط الحضري والهندسة الزراعية والميكانيكية والكهربائية والمدنية وغيرها. وقد يتعرض المسلم لبعض الإشكالات والنوازل الفقهية التي يمكن للهندسة في تخصصاتها المختلفة أن تقدم حلولاً تتوافق مع الرأي الفقهي، لتسهل بعض الشرائع الدينية. ولذلك فالمهندس يستخدم أدواته التي تعلمها مثل الرياضيات والفيزياء والتصميم ليقدم تلك الحلول. وهذه الحلول ستكون بإذن الله موافقة لاحتياجات المسلم بعد أن يستخدم الفقيه أدواته التي تعلمها من خلال الدليل والإجماع والقياس وغير ذلك ليتحقق من توافق الحل الهندسي مع الشريعة الإسلامية. في هذا البحث، سيتم تسليط الضوء على بعض الاجتهادات الهندسية التي تمت وتتقاطع مع احتياجات المسلم في تأدية واجباته الدينية، واحتياجاته اليومية.
يُعرف الفقه اصطلاحاً بأنه: معرفة الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال. ولذلك فمن مهام الفقيه البحث عن المحرمات لتجنبها وإيجاد البديل الحلال. وعلى نفس السياق، تم تعريف الهندسة على انها المهنة التي يتم فيها تطبيق المعرفة بالعلوم الرياضية والفيزيائية المكتسبة من خلال الدراسة والخبرة والممارسة، لتطوير طرق لاستخدام الموارد الطبيعية، اقتصاديا لصالح البشرية. فالمهندس يبحث عن المشكلات لتجنبها ومن ثم صناعة الحلول.
وقد وردت آيات تحذر من الحرام، وتقدم البديل الحلال كما قال الله تعالى «وَأَحَلَّ للَّهُ البَيعَ وَحَرَّمَ لرِّبَاْ» البقرة 275. وقال «أُحِلَّت لَكُم بَهِيمَةُ الأَنعَامِ إِلَّا مَا يُتلَى عَلَيكُم» المائدة 1. فكثير مما حُرم شرعاً، يوجد له البديل الحلال. فحُرم الزنا وأُحل الزواج، وحُرمت السرقة، وأُحل الكسب بالعمل. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، والْحَرَامَ بَيِّنٌ، وبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فمَن اتَّقى الشّبهات فقد استبرأ لدينه». والفقه هو أسلوب حياة، يرتب حياة المسلم في البيت والعمل، أثناء النوم واليقظة، وفي علاقته مع الناس، ومع الحيوان والنبات والجماد.
ففيما يخص العمارة والتخطيط، تبين السنة النبوية العلاقة بين المباني المتجاورة، وعلاقة المبنى مع الطريق، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم «لا يمنعْ جار جاره أن يغرز خشبةً في جداره». وعن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:» إِيَّاكُم وَالْجُلُوسَ في الطُّرُقاتِ، فقَالُوا: يَا رسَولَ اللَّه، مَا لَنَا مِنْ مَجالِسنَا بُدٌّ، نَتحدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ رسولُ اللَّه : فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِس فَأَعْطُوا الطَّريقَ حَقَّهُ». وقد تطرق الدكتور صالح الهذلول لأثر التشريع في المدينة الإسلامية في كتابه «المدينة العربية الإسلامية: أثر التشريع في تكوين البيئة العمرانية». ويناقش الكتاب أثر التشريع الإسلامي في تكوين البيئة الحضرية في المدن العربية الإسلامية، وكيف أثرت مبادئ الشريعة الإسلامية في التنظيم المكاني، واستخدام الأراضي، وأنظمة البناء، والعلاقات الاجتماعية في هذه المدن. وينقسم الكتاب إلى جزءين: يتناول الجزء الأول الجوانب النظرية والتاريخية للموضوع، ويعرض الجزء الثاني دراسات حالة لبعض المدن العربية الإسلامية مثل بغداد والقاهرة ودمشق والمدينة النبوية. ويعتبر الكتاب من أهم المراجع في مجال العمران والعمارة الإسلامية. وفيما يتعلق بالمسجد من حيث التخطيط الحضري والمعماري، يتم تخطيط المساجد باتجاه القبلة، وكذلك تجنيب دورات المياه القبلة، وتستخدم الزخارف الهندسية «الأرابيسك» بالمساجد بدلا من المجسمات الموجودة في المعابد الخاصة بالأديان الأخرى. وقد صممت الجوامع بطريقة القبب المتكررة لينتقل صوت الخطيب لمسافات أبعد في الجوامع قبل ظهور الكهرباء ومكبرات الصوت.
ومن الحلول الهندسية كذلك، الكراسي المخصصة لمن لا يستطيع الجلوس على الأرض. حيث يتقدم المصلي الصف بسبب وجود الكرسي التقليدي، فظهرت تصاميم مختلفة للكرسي، تمكن المصلي من محاذاة الصف أثناء جلوسه أو وقوفه. فقام فاروق داغستاني من جامعة الملك عبدالعزيز، بتصميم كرسي عبر تصميم تصوري جديد لكرسي صلاة الجماعة يعالج اختلال المحاذاة باستخدام التعديل اليدوي لمسندة الظهر لتتحرك للخلف والمقعدة إلى أسفل. وفي سياق آخر، قام عبدالله فوزي من جامعة USIM الماليزية وآخرون، بتصميم كرسي يتمكن من خلاله من لا يستطيع السجود على الأرض، أن يسجد على قطعة من السجاد مثبتة أمام الكرسي. وقد نشر الشيخ سليمان الماجد إجابة على فتوى بشأن هذا الكرسي بما يلي «من لا يستطيع السجود على الأرض فإنه يسقط عنه ويجب عليه أن يومئ بقدر استطاعته إلى القدر الذي لا مشقة ولا ألم عليه فيه. وأما السجود على المخدة ونحوها فاختلف فيه أهل العلم؛ لاختلافهم في تصحيح خبر جابر رضي الله عنه قال: عاد النبي صلى الله عليه وسلم مريضا، فرآه يصلي على وسادة، فرمى بها، وقال: «صلِ على الأرض إن استطعت، وإلا فأومئ إيماء، واجعل سجودك أخفض من ركوعك». قال الألباني: رواه البيهقي، وصحح أبو حاتم وقفه، فذهب الحنفية والمالكية إلى المنع، والأرجح هو مشروعية السجود على مثل ذلك؛ لكونه الأقرب إلى هيئة السجود من مجرد الإيماء أو الانحناء اليسير، وهذا قول ابن عباس وأم سلمة، وهو مذهب الشافعية والحنابلة. والله أعلم»
وخلال الحروب والكوارث والجوائح، يكون هناك زيادة في أعداد الموتى، ونقص بعدد مغسلي الأموات المتمرسين. وقد يكون هناك خوف من العدوى بالأمراض للمغسل. للأسباب السابقة يمكن أتمتة تغسيل الميت. فقد قام عبدالرحمن الناصر من الكلية التقنية بعنيزة وآخرون، بدراسة هندسية لتصميم جهاز يتولى تغسيل الميت حسب السنة النبوية، وباستخدام مسار آلي وفتحات نفث المياه، يتم التحكم بها آليا، بالتوافق مع تحريك الميت على البكرات. ويتم ذلك بطرق التعرف الضوئي لأعضاء الميت، عبر حساسات يمكنها التعرف على موقع الوجه واليدين والقدمين، ليتم التغسيل بالترتيب وبشكل شامل، ويعطى كل عضو رقما محددا. وقد كان هذا التصميم مبادرة ضمن الأبحاث المتعددة التي قدمت خلال جائحة كورونا.
ختاما: يرتبط الفقه ارتباطًا وثيقا بحياة المسلم، وكذلك الهندسة، فهي تتداخل في جوانب كثيرة من حياته، ولذلك كانت العلوم الهندسية مُتمِّمة لمسائل فقهية مختلفة، والعكس صحيح. وهذا الترابط يجعل من تطوير الأبحاث المشتركة بين الفقهاء والمهندسين له أثر كبير في تحسين حياة المسلم وعلاقته بربه أولا، وبمن حوله ثانيا، فالإسلام صالح لكل زمان ومكان، وليس خاضعاً لهما.