د. عبد العزيز بن حسين العنزي
منذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز،- طيب الله ثراه- اتخذت حكومتنا الرشيدة -حفظها الله- الريادة العالمية في تطوير الإنسان والحفاظ على حياته وتطوير سبل عيشه نهجاً لها. فقام الملك عبد العزيز بعد توحيد بلادنا بإرسال أبنائه الملوك عام 1945م إلى مدينة سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة للمشاركة في تأسيس عصبة الأمم المتحدة (هيئة الأمم المتحدة). وقامت المملكة في ذلك الوقت أيضاً بدعم الهيئة مادياً رغم حداثة عهدها. وقد تجلى لاحقاً هذا التأثير والدعم العالمي في عدة جوائز عالمية كجائزة الأمير سلطان العالمية للمياه، والتي تعد أرقى وأثمن جائزة للعلماء المختصين في أبحاث المياه.
كما كانت المملكة مساهماً تاريخياً رئيسياً عالمياً في مجال مساعدات تنمية المياه، والتركيز على دعم المشاريع الدولية، وتقديمها تمويلات تجاوزت 6 مليارات دولار لدول في 4 قارات حول العالم لصالح مشاريع المياه والصرف الصحي تعزيزاً ودعما لجهود العديد من الدول في هذا المجال. وعلى مدار عقود كانت أيضاً مرجعية عالمية رائدة في إنتاج ونقل وتوزيع المياه وابتكار الحلول التقنية لتحدياتها، ومساهمتها في وضع قضايا المياه على رأس الأجندة الدولية.
وفي السنوات الأخيرة، أولت المملكة مزيداً من الاهتمام بقضايا المياه على الصعيدين الدبلوماسي والتعاون الدولي. حيث سهلت إنشاء شبكات الاتصال والتعاون والبحث المرتبطة بالمياه، وأظهرت التزاماً قوياً بتعزيز السياسات المستدامة لموارد المياه خلال فترة قيادتها لمجموعة العشرين (20). وعزز هذا النهج وطوره صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان من خلال العديد من المبادرات العالمية، مثل مبادرة السعودية الخضراء والتي تركز على الابتكار في مجالات التقنية البيئية والمياه. ومع انتقال الحوار السنوي بين دول مجموعة العشرين حول قضايا المياه إلى منصة عالمية لتنسيق الجهود الدولية لمعالجة تحديات المياه، أثبتت المملكة قيادتها عند عقد الاجتماع الأول لوزراء المياه في مجموعة العشرين وتشكيل مجموعة اتصال للجهات الفاعلة في مجال المياه داخل المجموعة. وأكد بيان قادة مجموعة العشرين الختامي في قمة الرياض على أهمية ضمان وصول الخدمات المائية والصرف الصحي للجميع بأسعار معقولة وآمنة وموثوقة. وهذا ما أتى بثماره بفخر، حيث إنه خلال الـ 20 شهراً الماضية تقدمت المملكة في أبحاث المياه بتسجيل 22 براءة اختراع، والتي تتميز جميعها بأثرها الكبير على تطبيقات إنتاج وخدمات المياه ورفع الكفاءة.
ويعد إعلان تأسيس المنظمة العالمية للمياه التي ستتخذ من الرياض مقراً دائماً لها خطوة مهمة نحو معالجة أزمة المياه العالمية، حيث ستجمع المنظمة خبراء من جميع أنحاء العالم لمشاركة المعرفة وتبادل المعلومات والممارسات الجيدة في مجال إدارة المياه والبحث والابتكار وتعزيز التفاهم والتعاون الدولي في إدارة الموارد المائية. كما ستكون بمثابة منصة عالمية توفر المعلومات والتقارير والتقييمات، لتمكين الدول الأعضاء من اتخاذ قرارات مستنيرة وتنفيذ ممارسات فعالة وتعزيز التنمية المستدامة.
ولا شك في أن تأسيس هذه المنظمة سيمنح المملكة بعداً استراتيجياً ويعزز دورها الرائد في حفظ الموارد المائية وتحديات المياه العالمية من خلال عدة جوانب أهمها:
- تعزيز المكانة الدولية للمملكة وتأكيد التزامها بالتنمية المستدامة والتعاون الدولي في مجموعة العشرين (G20) والأمم المتحدة وسواها من المنظمات والتجمعات الدولية مما يمكنها من تعزيز صوتها وتأثيرها والمساهمة في صياغة السياسات العالمية لحفظ الموارد المائية ومواجهة تحدياتها.
- إيجاد فرص اقتصادية جديدة من خلال جعل المملكة العربية السعودية مركزاً دولياً للأبحاث والابتكارات في مجال المياه، وتطوير الابتكارات النوعية في المياه والعلوم الأساسية مثل تطوير المواد النانونية والتفاعلات الكيميائية لحلول معالجة المياه، الأمر الذي سيسهم في مواجهة تحديات البيئة الأخرى كالطاقة النظيفة المستدامة وتقليل انبعاثات الكربون والمساهمة في تحقيق أهداف الحياد الصفري بحلول العام 2050.
- الدعم غيرالمحدود من قيادة المملكة للبحوث والابتكارات التي تهدف إلى إزالة الكربون من عمليات تحلية المياه (Desalination of Decarbonization)، والتي ستكون لها دور فعّال في تحسين تحلية المياه ودعم الريادة العالمية في هذا المجال من خلال تطوير تقنيات وعمليات تحلية المياه التي تعتمد على الطاقة المتجددة وتقنيات الكفاءة العالية والبحث عن الحلول المبتكرة لاستخلاص الانبعاثات الكربونية وإعادة استخدامها.
وفي إطارخارطة طريق مبادرة السعودية الخضراء في الوصول لخفض الانبعاثات الكربونية في قطاع المياه بمقدار 278 مليون طن سنويا، تملك المملكة العربية السعودية لوحدها القدرة على إنتاج 9 ملايين متر مكعب يومياً من المياه، في ظل سعيها اليوم إلى زيادة قدرتها الإنتاجية بمعدل 7 ملايين متر مكعب يومياً بحلول عام 2026.
وبالرغم من أن مشاريع تحلية المياه تترافق مع ارتفاع معدلات الانبعاثات الكربونية، فهي تبقى بمثابة حلّ واعد لدعم التزامات الكثير من دول العالم، بما فيها المملكة العربية السعودية، لتحقيق أهدافها المرتبطة بالاستدامة والعمل المناخي. بالإضافة إلى أن إنتاج المياه الصالحة للشرب للقطاعات الحيوية والاستخدامات التجارية والصناعية، يعد من الخطوات الضرورية لتلبية الاحتياجات المستقبلية من المياه.
وبمشيئة الله ومع تأسيس المنظمة العالمية للمياه، سوف نشهد تحولاً تدريجياً على صعيد التقنيات المستخدمة ضمن قطاع تحلية المياه، من خلال تطبيق أفضل الممارسات لحماية البيئة. والتحول إلى الطاقة النظيفة، وتعزيز برامج الاستدامة المبتكرة، واستبدال مصادر انبعاثات الكربون بأخرى آمنة وصديقة للبيئة؛ كخطوة طموحة للتوجه بعيداً عن التقنيات الحرارية التقليدية، مثل تكنولوجيا التقطير متعددة التأثيرات والتقطير الومضي متعدد المراحل، نحو تقنية التناضح العكسي التي تعد اليوم الوسيلة الأمثل لتعزيز فعالية وكفاءة مشاريع تحلية المياه والحد من الانبعاثات الناجمة عنها. ومع الدعم غيرالمحدود سنواصل تطوير قدراتنا المرتبطة بتحلية المياه بالبحوث والابتكارات للتوصل إلى حلول مبتكرة، لتعزيز فعالية العمليات وكفاءتها من حيث التكلفة وتحويلها إلى عمليات خالية من الانبعاثات، للوصول إلى الهدف المنشود بالحياد الصفري، واستبدال مصادره بحلول بديلة وتقنيات صديقة البيئة، وتحقيق هدفنا في خفض (34) مليون طن كربون سنويا بحلول العام 2024. بالإضافة إلى خفض 42%من استهلاك الغاز، و100% من استهلاك الوقود، وزراعة 5 ملايين شجرة لخفض 120 ألف طن سنويا من الانبعاثات.
وبفضل الطموحات والجهود الريادية التي تقودها مملكتنا الغالية في مجال حفظ وتطوير موارد المياه ومكافحة تحديات المياه العالمية، نجد أننا نقف أمام مستقبل مشرق وواعد تتحقق فيه الاستدامة البيئية لجودة حياةٍ أفضل للأجيال الحالية والمستقبلية. ويمثل إعلان تأسيس المملكة للمنظمة العالمية للمياه رؤية واضحة نحو المستقبل الذي نسعى لتحقيقه. هذا المستقبل يتضمن عالما يتميز بموارد مائية غنية ومستدامة تحافظ على توازن البيئة، واقتصاد يعتمد على الاستدامة والتكنولوجيا البيئية لتحسين جودة الحياة. ومجتمع يتلاحم في مواجهة التحديات البيئية، ويعمل بجد لتحقيق التوازن بين احتياجاته واحتياجات البيئة التي نعتمد عليها. هذا الالتزام يعكس التفاني في الابتكار والتقدم في مجال إدارة وتطوير المياه. إن هذه الطموحات والجهود ستكون إرثا يعتز به العالم، وستلعب دورا كبيرا في تحقيق رؤية المملكة الطموحة 2030 نحو مستقبل أكثر استدامة وازدهارا للجميع.
* الفائز بجائزة الأمير سلطان العالمية للمياه في الابتكار
** **
أستاذ الهندسة البيئية المساعد - جامعة الملك سعود