علي الخزيم
- الصَّبر عند العرب معدود بين أجمل الصفات؛ وبتجاربهم قرروا بأنه -مع التوكل على الله- بداية ومفتاح لما يَنغَلق على المرء؛ وبه الفَرَج لما يتعسَّر عليه، وتظهر عظمته عند الكُرُبات والشدائد؛ كما يَشِع جَماله عند انفراجها وزوال الغُمَّة عن القلب والنفس، وكانوا يقولون: من دواعي الصّبر حبس النَّفْس على ما يقتضيه العقل.
- ومن نواقض الصّبر ويُعاضده العَجز: التَّملمُل من الأهل والصّحاب؛ وكثرة التّذمر من أحوالهم وبعض طباعهم وتوجُّهاتهم بالحياة، ذلكم أن الله سبحانه قد أوجد فروقاً بين الإنسان والآخر بالميول والطباع، فمَن لمْ يصبر ويُوازن بين نظرته وفكره وبين ما لدى الآخرين فإنه بهذا الشأن محسوب بين العاجزين، قال البحتري:
عَوِّلْ عَلَى الصَّبْرِ واتَّخِذُ سَبَباً
إِلى اللَّيَالِي فإِنَّها دُوَلُ
- ومما درجت عليه العرب بسجاياهم وأخلاقهم الراقية العفو عن العدو إن هو انتهى؛ والصبر على الخصوم بالتحاور والتنافس النَّقي، وصيانة المروءة وحدود الشرف عند التعاطي معهم بأمور دقيقة ينبني عليها قرارات وإجراءات تمس مقومات الحياة والمصالح، فليست الشجاعة ألَّا نخاف الله ولا نداري مَلامَة عباده؛ ومما قالوا:
وَلا تُرِينَّ الناسَ إِلّا تَجَمُّلاً
نَبا بِكَ دَهرٌ أَو جَفاكَ خَليلُ
- ومما قالت العرب: أرفع منازل الصداقة خصلتان أولاهما الصبر على الصديق عندما يغلبه غضب أو نوازع نفسية فيسئ إليك؛ والثانية صبرك على هذا الصبر حين تُملي عليك نفسك بأن تجازيه بالإساءة؛ فلا تنقاد لوسوسات النفس ولكن بإرجاع الأمور إلى حكمة العقل ومواثيق الصداقة النقية،(أما المُخادعون الانتهازيون فلهم أحكام لا تخضع لهاتين المنزلتين).
- وبمقاييس موازين الصبر والتَّجلد فإن من الخطأ حُسبان أن الشجاع لا يعرف معنى الحياة التي تقوده للخوف؛ وأن السَّخي لا يُدرك قيمة المال فهو يبذره جهلاً وسفاهة؛ وأن كريم السجايا المتواضع لم يتعلم الأنَفَة ورفعة الشأن، والصواب: أن الكرم مقرون بتقدير قيمة المال، ولا قيمة لإقدام شجاع إن لم يكن الخوف من العواقب حاضراً بين جوانحه؛ كما أن القلب الذي لا يعرف الكَمَد والأحزان لا فضل له بالصبر ومغالبته، قال إِبراهيم اليازجي:
كم بين صبرٍ غدا للذلِّ مُجْتلباً
وبينَ صبْرٍ غدا للعزِّ يجتلبُ
- ومن جماليات أقوال العرب المُستَخلصة من تجاربهم وموروثهم بمكارم الأخلاق وصفهم لأجمل العجز بأنه: (العجز عن مجاراة الدنيء بدناءته؛ واللئيم بلؤمه؛ والخبيث المُخاتل بخبثه)؛ كما قرروا أن أشرف الهرب هو الهرب من محاورة السفيه والمتعالي عن جهل؛ ومماراة الظلوم الرقيع (الأحمق السَّمج)؛ ومن أرقى أقوالهم: (أقوى القهر قهر النفس عن محارم الله ومخازي الأفعال وخوارم المروءة)، وقد يناسب هذا بيت عنترة:
لا تسقني ماء الحياة بذلة
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
- ولن ينال المرء المقام الاجتماعي والسمعة العطرة والذكر الحسن دون خوض التجارب الصعبة والصبر على المكاره وتحمل المشقة؛ فتجَرُّع الصبر مُرٌّ غير أن ثماره ونتاجه حلوة كالشهد؛ إذاً: هو العقل ورجاحته؛ وإخضاع المواقف ومستجدات الأمور إلى حُكمه وتدبيره بما يوائم العُرف والمنطق والشرع..