منصور ماجد الذيابي
قبل توضيح أهمية التربية في حياة الإنسان, ينبغي أولاً أن أوضح لجمهور القرّاء مفهوم التربية وأهدافها وخصائصها وأساليبها ومجالاتها وأصولها وأغراضها ومصادرها, ليمكنني بعد ذلك تسليط الضوء على أهمية التربية في حياة الأمم منذ نشأة الإنسان, وكذلك دور المربي قبل ظهور المؤسسات المعنية بالتربية والتعليم.
عندما نستعرض مفهوم التربية في المعاجم اللغوية نجد أن للتربية أصولاً لغوية ثلاثة: فالأصل الأول لكلمة تربية يشتق من الكلمات: «ربا, ويربو» بمعنى زاد ونما. والأصل الثاني للتربية مشتق من كلمة «يربى», أي نشأ وترعرع, في حين أن الأصل الثالث يتفرع من الكلمات: «ربّ, يربُّ» بمعنى أصلحه وتولى أمره ورعاه.
فالمعنى اللغوي للتربية يتضمن عملية النمو والزيادة, وأن هذا النمو لابد وأن يكون من جنس الشيء. وبالنسبة للإنسان يكون هذا النمو في جسمه وفي عقله وفي خُلقه. وهذا المعنى اللغوي هو لب معنى التربية بالمعنى الاصطلاحي.
يضاف إلى ذلك أن لمفهوم التربية معانيَ عديدة, كالمعنى الاجتماعي, وهو كل عملية تساعد على تشكيل عقل الفرد وخلقه وجسمه, والمعنى التعليمي, وهو غرس المعلومات والمهارات المعرفية من خلال مؤسسات محدّدة, والمعنى التهذيبي, أي تهذيب الخلق وتنمية الخصال الحميدة في الإنسان, والمعنى الإسلامي بحيث يتم بلوغ الكمال بالتدريج, أي كمال الجسد والعقل والخلق.
ومن معاني التربية المعنى المهني, وهو أحد فروع المعرفة الأكاديمية المنقسم إلى تخصصات مختلفة في فلسفة التربية وأصولها ومناهجها. كما أن للتربية معنىً اقتصادياً يشير إلى أن التربية عملية اقتصادية تعنى باستثمار الأموال في الموارد البشرية.
و أما بالنسبة لأهداف التربية, فإن الهدف الرئيس هو تحقيق مبدأ العبودية لله سبحانه وتعالى ذلك أن التربية الإسلامية تربية متكاملة تنشد الكمال الإنساني لأن الإسلام يمثل بلوغ الكمال الديني, فهو خاتم الأديان وأكملها وأنضجها, قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}. فالتربية تساعد على تقوية الروابط الإسلامية بين المسلمين ودعم تضامنهم الإسلامي عن طريق توحيد الأفكار والاتجاهات والقيم بين المسلمين عامة, كما وأنها تربية دينية ودنيوية مثلما جاء في القرآن الكريم: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}.
وبالنسبة لخصائص التربية الإسلامية, فهي تربية متكاملة, أي أنها لا تقتصر على جانب واحد من جوانب شخصية الإنسان, بل تنظر إلى الإنسان نظرة متكاملة تشمل كل جوانب الشخصية, فهي تربية للجسم وتربية للعقل والنفس معاً. والتربية الإسلامية تربية نفسية, أي أنها تخاطب عاطفة الإنسان ووجدانه وقلبه وضميره. لهذا أمرنا ديننا بأن نربي أنفسنا على الفضيلة وحب الناس.
ومن أساليب التربية أسلوب القدوة الصالحة والموعظة الحسنة, إذ أن للقدوة الصالحة أهمية كبرى في تربية الفرد وتنشئته على الطريق الصحيح كما أن لأسلوب الموعظة الحسنة تأثيراً جيداً في النفوس لأنه يخاطب النفس الإنسانية ويجعل الناصح في نظر المنصوح شخصاً طيب النوايا حريصاً على المصلحة. يضاف إلى ذلك أسلوب الترغيب والترهيب, وهو أن أسلوب الثواب والعقاب من الأساليب التي تستند إليها التربية في كل زمان ومكان, فالإنسان يتحكم في سلوكه بمقدار معرفته بالنتائج الضارة أو النافعة التي تترتب على عمله وسلوكه, فالجزاء من جنس العمل. كما أن أسلوب التشبيه وضرب الأمثال يتماشى مع الطبيعة البشرية التي تؤمن بالشيء الملموس والمحسوس الذي يقع في دائرة التجارب ولا يستطاع إنكاره.
ومن أساليب التربية كذلك أسلوب التربية بالحوار الجدلي وبالممارسة والعمل والذي يتضح من أسلوب المعلمين في النصح وتأثيره على نفوس الطلاب. فالمعلم يجب أن يبتعد عن أسلوب الأوامر والنواهي, والأفضل أن يستعين المعلم بالأسلوب غير المباشر في النصح والتوجيه.
أما بالنسبة لمجالات التربية, فمنها التربية العقلية, وتشمل الناحية الإدراكية والانفعالات والعواطف, وقد دعت التربية الإسلامية إلى التفكير العلمي التأملي واكتشاف آيات الله في الكون. وهناك التربية الاجتماعية وأساسها التعاون على البر والتقوى, قال تعالى: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان». ومن مجالات التربية كذلك التربية العملية, أي ما يرجع إلى التعبد, كالصلاة والصوم والحج, وأيضاً التصرف في شؤون الحياة وكشف أسرارها.
أما ما يتعلق بأصول ومصادر التربية, فإننا نعلم جميعاً بأن للقرآن أسلوباً جميلاً ومزايا فريدة في تربية الإنسان على الايمان بوحدانية الله وباليوم الآخر. فالقرآن الكريم يفرض الإقناع العقلي مقترناً بإثارة العواطف والانفعالات النفسية الإنسانية, فيربي العقل والعاطفة معاً. كما وأن القرآن الكريم يبدأ من المحسوس المشهود المسلّم به, كالمطر والرياح والنبات والرعد والبرق, ثم ينتقل إلى استلزام وجود الله وعظمته وقدرته مع اتخاذ أسلوب الاستفهام أحياناً, إما للتقريع وإما للتأنيب وإما للتذكير بالجميل, مما يثير في النفس الانفعالات الربانية, كالشكر والخضوع ومحبة الله والخشوع اليه.
و تعد السنة المصدر الثاني للتربية الإسلامية. فقد جاءت السنة لتحقيق هدفين هما إيضاح ما جاء في القرآن {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}. ويضاف إلى ذلك مصادر أخرى كالإجماع والقياس والاجتهاد.
ولقد تطور مفهوم التربية من مرحلة الجهود المبعثرة وغير المنظمة إلى مرحلة الجهود المنظمة التي توضع لها البرامج وتنظم لها المشروعات, ثم انتقلت التربية بعد ذلك من مرحلة احتكار الأسرة لها إلى مرحلة المنظمات المتخصصة كالمؤسسات الدينية والعسكرية والاقتصادية إلى أن ظهرت المدرسة كمنظمة تربوية رسمية ما جعل التربية تنتقل من مرحلة تعليم الصفوة إلى تعليم الجماهير عامة.
للمفهوم الشامل للتربية خصائص معينة منها أن التربية عملية تكاملية لا تقتصر على جانب واحد من جوانب الشخصية الإنسانية بل هي شاملة لجوانب الإنسان عامة. فهي تربية لجسمه وعقله ونفسه وخلقه وعواطفه. ومن خصائص هذا المفهوم هو أن التربية عملية فردية اجتماعية, فهي تنظر للإنسان من منظوره الفردي, فتبدأ معه من حيث هو بإمكاناته الجسمية والعقلية والنفسية ذلك أن الإنسان يولد ضعيفاً ويكون بحاجة لعناية الكبار به حتى يقوى. والتربية تختلف باختلاف الزمان والمكان ومن عصر لعصر ومن مجتمع لمجتمع آخر.
بقي أن أوضح أهمية التربية للفرد, فالتربية لا تنتقل من جيل إلى جيل بالوراثة, كما وأن الطفل مخلوق كثير الاتكال قابل للتكيف. وبالنسبة للمجتمع تكمن أهمية التربية في المحافظة على التراث الثقافي, ومكافحة الأمّية, وتحسين الحالة الصّحية, وتوطيد دعائم الأسرة, وتقوية الرّوح الوطنية, ورفع المستوى الخُلقي, وتحقيق الوحدة القومية, وتنمية الموارد الطبيعية, والتركيز على القيم والمبادئ الإسلامية وتعميق إدراكها في نفوس الناشئين, وترشيد الاستهلاك وعدم الإسراف.
وبالنسبة لأهمية التربية في الحكومات, فقد أصبحت التربية استراتيجية قومية لكل شعوب العالم, ذلك أن رقي الشعوب وتقدمها وحضارتها يعتمد على نوعية أفرادها, كما وأن التربية بالنسبة للدول والحكومات تعد عاملاً مهماً في التنمية الاقتصادية للشعوب. فالعنصر البشري أهم ما تملكه أي دولة. وللتربية هنا دور هام في زيادة الإنتاج القومي كما وأن لها دوراً هاماً في تنشيط المؤسسات الصناعية والإنتاجية من خلال تطوير المعرفة وأساليب العمل والإنتاج.
تُعد التربية عاملاً مهماً في التنمية الاجتماعية كالقيام بدور المواطنة الصالحة القادرة على تحمّل المسؤوليات والقيام بالواجبات. وهي ضرورة للتماسك الاجتماعي والوحدة القومية والوطنية من خلال توحيد الاتجاهات الدينية والفكرية والثقافية لدى أفراد المجتمع. كما وأن من أغراض التربية تنمية قدرات الفرد وإطلاق لإمكانياته, وتقوية شخصيته إلى أقصى حد تسمح به استعداداته. فالتربية تهدف إلى تحقيق السمو النفسي الذي يتجلى في حب الخير والإخاء وحب العدل والتعاون والتعاطف والترفع عن الصغائر وتقدير الناس واحترامهم والاعتزاز بكرامة الإنسان وتحمل المسؤولية والتضحية في سبيل الغير. علاوة على تلك الأهداف, فإن التربية تهدف لتنمية جميع قوى الناشئ العقلية والجسمية والروحية والاجتماعية وصقل مواهبه واستعداداته. تلك هي وظيفة التربية المشتملة على نقل الأنماط السلوكية للفرد من المجتمع ونقل التراث الثقافي من جيل إلى جيل بعده, وتنوير الأفكار بالمعلومات الحديثة, وإكساب الفرد خبرات مجتمعه من عادات وتقاليد.
من كل هذه المعلومات والمعطيات حول التربية, نفهم أن الوالدين كانا يقومان تلقائياً بالدور التربوي دون أن يعلم أي منهما بأنه سوف تنشأ في مقبل الأيام مؤسسات تربوية تشارك الأسرة في تولي مهام التربية وهو ما حدث بالفعل حينما ظهرت المدرسة كأول مؤسسة رسمية بعد المسجد الذي تولى هذه المهمة وتحمل المسؤولية التربوية لفترة من الزمن حتى ظهور المدرسة كما نعرفها اليوم, والتي رغم أنها ساهمت بشكل فعّال في تخفيض نسبة الأمية إلى أدنى مستوياتها, الا أن للمدرسة بعض السلبيات التي يمكن اختصارها فيما يلي:
أول هذه السلبيات هو الانعزالية, إذ أصبحت المدرسة في منأى عن الحياة الاجتماعية, ولم تعد تهتم بحاجات المجتمع الذي يرغب في تعاون المدرسة معه على تذليل المشاكل الاجتماعية التي تواجهه. فالمدرسة قد ركّزت وتركز على محيطها الداخلي وكيفية الحصول على سمعة خاصة بها من خلال إبراز النتائج الدراسية ونسبة النجاح ومعالجة المشاكل الإدارية الخاصة بها.
وثانياً هو اهتمام المدرسة فقط بالشهادة وجعلها الغاية المرجوة من العملية التربوية. فالشهادة وسيلة وليست غاية, وهناك الكثير من علماء المسلمين الذين قدموا وساهموا بالكثير من أجل نفع مجتمعهم بل والعالم أجمع لأن اهتمامهم كان ينحصر في كيفية الرقي بالعالم الإسلامي ووضعه في مصاف الدول المتقدمة فكرياً واجتماعياً.
وثالث هذه السلبيات هو المناهج والتبعية الثقافية للغرب ذلك أن المناهج تبتعد ابتعاداً شبه تام عن التجارب التي قام بها علماء مسلمون وتزخر مواضيعها بالأسماء الغربية والنظريات والمصطلحات غير العربية, وذلك في الكيمياء والفيزياء والأحياء وغير ذلك من العلوم بيد أن أعظم من كتبوا في هذا المجال هم المسلمون. فكل هذه العلوم مترجمة عن أبحاث قام بها علماء من الغرب. ورابعاً وأخيراً نجد الابتعاد عن الجوانب الأخرى عند الطلاب والتركيز على الجانب العلمي فقط. فهناك جوانب تغفلها المدرسة وهي النواحي الفنية وتنمية المهارات والهوايات وجعلها أشياء ثانوية تمارس بشكل نادر وتكاد أن تختفي تماماً.