ياسر صالح البهيجان
الفراغ الثقافي في أي مجتمع من المجتمعات يُعَدُّ نوعًا من حالة التيه التي تغيب فيها بوصلة الاتجاه، ويظل أفراد المجتمع في موقف حيرة وداخل دوامة ضبابية يجهلون بها واقعهم ولا يعرفون وجهتهم، مما يجعلهم عرضة لأي حالة استقطاب خارجية قد تهدد لحمتهم الوطنية وتماسكهم الاجتماعي.
وما إن تتلمَّس الأطراف الخارجيّة وجود فراغ ثقافي في أي مجتمع حتى تسارع إلى تعبئته من خلال الخطاب الشعبوي الذي يلامس تطلعات الشريحة العظمى من السكان، لتبدأ بلعب دور البطولة وتحريك الشعب حتى يتحوّل إلى بيدق بيد ذلك الطرف، وعادة ما يجري استغلال الشعوب بطرق انتهازية تروم نهب خيراتهم وإفقارهم، وتحويلهم إلى معاول هدم ومطيَّة لتحقيق مصالح دول أخرى أو جماعات متطرفة.
وفي المجتمعات العربية عامة وعلى مدى العقود الماضية، ملأ المد القومي العروبي الفراغ الثقافي كردة فعل على الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وظهرت مشاريع الوحدة بين البلدان العربية، وتشكلت التيارات القومية والبعثية والناصرية لتمارس دورها في منح ذلك الفراغ هوية عروبية خالصة، وساد الفكر الثوري العربي لدى جيل الشباب حتى فشلت تلك المشاريع وأثبتت أنها مجرد أوهام، وأن الجسد العروبي مثقل بالأزمات التي تمنعه من أن يشكّل قوّة عالميّة تضاهي القوة الغربية، وتجلت تلك الحقيقة القاسية في هزيمة حزيران 1967.
وبعد فشل مشاريع الوحدة والنهضة العربيّة عاد الفراغ مجددًا في سبعينيات القرن الماضي، وانتهزت جماعات الإسلام السياسي الفرصة لتملأ الفراغ الثقافي، وطرحت رؤيتها كحل للخروج من حالة الانهزام واليأس التي كانت تسيطر على الشعوب العربية بعد فشل قدرتها على الاتحاد وتشكيل جبهة تواجه المشاريع الاستعمارية الغربية، وما إن تمكنت من الهيمنة على الفضاء الثقافي والاجتماعي حتى بدأت تمارس دورها التخريبي باسم الدين بهدف الوصول إلى سدة الحكم في البلدان العربية، ونتج عنها التطرف وسيادة خطاب التكفير والانغلاق مما جعل المجتمعات تتقهقر عقودًا إلى الوراء، لتدخل في زمن التخلف والرجعية.
وبعد تلك التجارب المريرة مع المشروعين العروبي والإسلام السياسي اللذين أثبتا فشلهما في تأسيس أوطان قوية وذات مكانة إقليمية وعالمية، جاء المشروع الوطني السعودي المتمثل في رؤية المملكة 2030 ليمثل نقلة نوعيَّة في الفكر العربي قاطبًا، واستطاع بجدارة أن يملأ الفراغ الثقافي بطموحات واقعيَّة وبناءة أسهمت في جعل المملكة ثقلاً على المستوى الدولي وفي شتى المجالات، حتى تحوَّل المشروع إلى نموذج تطمح معظم الدول في العالم إلى استنساخه والاستفادة من تجربته، إذ إن رؤية 2030 تمثل المشروع الأكثر نجاحًا على مدى قرن من الزمان، ليس على المستوى الإقليمي فحسب، وإنما على المستوى الدولي كذلك.