د.محمد بن عبدالرحمن البشر
هناك مثل عربي قديم استشهد به بعض الصحابة، وبعض المؤرخين، والفلاسفة، وغيرهم، ويقول المثل: (قتلت أرض جاهلها، وقتل أرض عالمها)، فعندما يسير المرء في أرض فلاة لا يعرفها، فإنه قد يتيه في الفلاة، فتقتله الأرض، لكن العالم بدروبها، وأوديتها، وشعابها، ويعرف ما قد تحمل من مخاطر، فإنه يتريث قبل الإقدام، ولا يقدم على شق فيافيها إلا بعد أن يعد للأمر عدته، أو يصرف النظر عن الولوج، حتى يأتيه من العلم، ما ينير بصيرته، ومن العدة ما يعينه، وقد استشهد بهذا المثل خالد بن الوليد، عندما أوفدت إليه فارس وفداً للتفاوض، وكان الموفد شيخاً كبيراً، كان حاجباه يغطيان عينيه، فيرفعهما بين الفينة والأخرى، وقد بالغ المؤرخون والرواة في عمره فقالوا إنه تجاوز المائتين من العمر، وهذا قول لا يمكن قبوله، فاستغرب خالد أن ترسل له فارس شيخاً هرماً، قد لا يحسن الرأي أو القول، وبعد أخد ورد، أدرك خالد، حكمة الرجل، وعذوبة قوله، فقال: (قتلت أرض جاهلها، وقتل أرضاً عالمها)، والمبالغة في طول الأعمار، وضخامة الأجساد، وقوة الرجال في الحروب والطعان في المعارك النهارية والليلية، تعج بها كتب التاريخ، أما ما ذكره القرآن فهو حق لا مراء فيه.
وفي أحد الفتوحات سار صحابي جليل بجيشه في صحراء مقفرة، ليس فيها سوى السراب يحسبه الضمآن ماءً، لكنه بعد أن أمضى نحو ليلتين عاد أدراجه من حيث انطلق جيشه، فسأله أحدهم عن سبب عودته، وعدم مواصلة المسير، فقال المثل المذكور: (تقتل الأرض جاهلها، وقتل الأرض عالمها)، ورجوعه كان حكمة، فلو واصل السير، فربما عرّض نفسه وجيشه إلى خطر كبير، وربما أنه قد أضله، أو من صاحبه على أنه عالم بدروبها، وكان على غير علم، فرجع أدراجه. قال الشاعر:
وما هداك إلى أرضٍ كعالمها
وما أعانك في غرمٍ كغرام
ولا استعنت على قومٍ إذا ظلموا
مثل ابن عمٍ أبى الظلم ظلام
أن تستعين بابن عم يأبى الظلم ليساعدك في رد الظالمين، ويرفع عنك المظلمة، فذلك أمر مقبول، أما أن تكون من صفاته أنه ظلوم فبئس الصفة أن يكون ظالماً، وربما أن السياق الشعري جعله يقول ذلك، فالتماس العذر للآخرين محمدة.
والمثل لم يعد ينطبق على الفيافي والأرض المقفرة، فقد منّ الله على البشرية بالعلم الحديث فأصبح جوجل وغيره دليل الإنسان في المدينة والصحراء، يعرف الدرب، ويقيس المسافة، بل ويهديك إلى أقصر السبل وأيسرها، فسبحان من علّم الإنسان، وأعانه على عناء الزمان، فلا حاجة إلى المري، والقيافة واتباع الأثر.
يمكن لهذا المثل أن ينطبق على ما هو أوسع، فمن دخل دون علم في مجال الاستثمار فقد يضل الطريق، وتتعاظم عليه الديون، فتضيق به الحال، ولا يهنأ له بال، وليس المثل القائل ( فاز باللذة الجسور) هو الأنسب، وإلا لبلغ كل مراده بالجسارة فقط، دون حكمة وتروٍّ، فكم من جسور زلت به القدم، وكان مآله إلى الندم، وبكى دهره، وتحير في أمره، فسبحان مسبب الأسباب، وفاتح الأبواب، يرزق من يشاء بغير حساب، نعم لقد شاهدنا من كان جسوراً ففاز، وهناك من رضي من الغنيمة بالإياب، وآخر ذاق مر الجسارة، فضاقت به داره، ولهذا فإن المثل الذي يقول (قتلت أرض جاهلها، وقتل أرض عالمها) أقرب للحقيقة.
ميدان آخر من الميادين التي يمكن أن ينطبق عليها ذلك المثل هو السياسة، وهي ساحة واسعة، وعثرتها مؤلمة، ولا تقف عند صاحبها فحسب، بل قد تجر معها ملايين البشر، للخير، وضده، والحكمة فيها مطلوبة، والتأني خير زاد، لبلوغ المراد، فقد رأينا من سار في أرض السياسة وهو جهول، فساق بلاده إلى الهلاك، في اقتصادها، وتهجير الملايين من رجالها، ونسائها، وأطفالها، وتشريدهم، وقتلهم.
وساحات التواصل الاجتماعي أرض تقتل الجاهل، ويقتلها العالم، فهي تسمح للجميع بالولوج، دون حدود، فيسرح الجميع ويمرح، يقول ما يشاء في كل طارفة ودانية، ومنهم من يفتي بالطب والتاريخ، والاقتصاد، والسياسة، والرياضة، دون علم، فهو يملي من جعبته، ويكتب في رقعته، ليس بالأمر عليماً، ولا بالخفايا فهيماً، يكتب أو يقول وكأنه على يقين، ومع ذلك تسمع له رنيناً، يتبعه من لا يدرك الحقيقة، ويسير على خطاه من لا يعلم بالطريقة، وكأنه يتبع بيت الشعر القائل:
إِذَا قَالَتْ حَذَامِ صَدِّقُوهَا
فَإِنَّ القَولَ مَا قَالَتْ حَذَامِ
وأخيراً، فيمكن للمثل أن ينطبق على من أراد أن يتزوج بثانية، وهو لم يعد العدة، من الشجاعة وقوة الحجة، والصمت تارة، والحديث تارة أخرى، والصبر على ضرتين، لكل منهما مطلبه من المال، والعتاد، والعاطفة، والأخذ والرد، فيكون قد انطبق عليه تقتل الأرض جاهلها، أما إذا كان مقداماً، قوي الشكيمة، لديه العتاد، والضغط على الزناد، ولديه من المال ما يغني، ومن التجاهل ما يكفي، ولديه شخصية مهابة، يقدم على الخوف من العواقب السعادة، فهو ممن ينطبق عليه شطر المثل: يقتل الأرض عالمها، فقد علم، وأدرك ما يواجهه، وأعد العدة، وهو بهذا سيعبر طريق السعادة دون عودة، وربما يزيد في الأمر ثالثة ورابعة.