محمد خير البقاعي
في يوم 18 كانون الأول (ديسمبر) عام 2012 م شهدت ردهات منظمة اليونسكو تكلل جهود دبلوماسي سعودي شاب بالنجاح في اعتماد اليوم المذكور؛ وهو اليوم الذي اعتمدت فيه اللغة العربية لغة سادسة بين اللغات المعتمدة في الأمم المتحدة عام 1973 م. كان الدكتور زياد الدريس، سليل أسرة اختلطت الثقافة بجيناتها فوالده الشاعر والأديب ورئيس النادي الأدبي في الرياض الشيخ عبد الله بن إدريس -رحمه الله- وأخوه الأستاذ إدريس الدريس. لقد كان الاختيار موفقا، فالمملكة العربية السعودية حصن العربية المنيع منذ أقدم عصور التاريخ فيها نزل القرآن الكريم وفيها كانت المعلقات والشعر العربي الذي كان مخزن عاداتهم وتقاليدهم وتاريخهم وثقافاتهم، وقد حملها العرب لغتهم معهم في فتوحاتهم إبان العصور اللاحقة واستطاعت هذه اللغة استيعاب الحضارات السالفة بعلومها وآدابها، وكان لها إسهامها الإبداعي في التطوير والاختراع. ثم مرت على هذه اللغة عصور استعمار مغولي وتركي وغربي وجد في اللغة وحمولتها عائقًا أمام طموحاته وفرض هيمنته، ووجد أن سر الأمة دينها ولغتها فبدأت جبهات محاربتها مواجهة حينا وتخطيطا وتآمرا حينا آخر. وكان كل ذلك يزيد العرب والمسلمين تمسكا بلغة القرآن. ولما استقلت الدول وتقسمت التركة الاستعمارية اتجهت الأنظار إلى تدعيم دور اللغة والعقيدة في أمن البلاد التي قامت بعد الاستقلال منفصلة، وأدت اللغة دور التواصل المنوط بها بين الغرب أنفسهم ومع المسلمين الآخرين وغيرهم من أتباع الديانات والأعراق في بلادهم. واليوم بعد التطور الهائل في وسائل التواصل وتعقد شؤون الثقافة والعلم تخوض اللغة العربية بحور هذا التطور بكثير من التنظير وقليل من التطبيق الفعال. يزعم العرب جميعا اليوم أنهم يعلمون ويتعلمون باللغة العربية، والحق أنه حتى في أقسام اللغة العربية وآدابها تنتشر لهجة البلد المعني وتكاد تطغى، وعندما يجد الجيل لهجة عامية لا تلبي طموحه وحاجاته يكون الملجأ هو اللغات الأجنبية، وعلى وجه الخصوص اللغة الأكثر حضورا في مستلزمات الحضارة والتطور التقني والعلمي (اللغة الإنجليزية). وإنه من القواعد المعروفة اليوم أن لغة الغالبين حضاريا وعلميا وثقافيا هي القطب الجاذب، ولا تجدن أحد يستطيع وقف التسميات والعبارات المصكوكة لانعدام البدائل، ولأن موسيقا الكلمات الأجنبية وحمولاتها الحضارية والثقافية أكثر غنى، وربما تكون في بعض الأحايين أكثر تفاهة، ولن في عرف الباكين على الأطلال. ولا تعدم العربية مدافعين وباذلين ومؤسسات تزعم خدمتها. ولكنها في رأيي المتواضع، تضع العربة أمام الحصان: فالمشروعات المنجزة أو قيد الإنجاز إما تاريخية وإما نظرية تشيح بإجراءاتها ونتائجها عن الواقع اللغوي السائد والمنشود: لأن العربية المعاصرة تحتاج في المقام الأول إلى دراسات وصفية تحليلية لوصف بنيتها ووصف علاقاتها النحوية والصرفية والصوتية والمجازية كما فعل اللغويون القدماء في وصف لغة القرآن الكريم والشعر والنثر حتى سنة 150 هجرية، وما زلنا حتى يوم الناس هذا نعتمد ذلك الوصف الذي استكمله اللغويون، وما زال معتمدا على الرغم من تغير أحوال اللغة العربية المعاصرة هذه اللغة التي تطورت في مفرداتها وتركيبها وعلى وجه الخصوص في دلالاتها وأساليبها واختلط العامي بالفصيح، والمتحدثون يظنون أنهم في رحاب الفصحى. وأصبح المتحدثون أمام هذا الانفلات وغياب الإحساس بالجمال يبحثون عن البدائل في التعبير والتسمية ولم يجدوا إلا لغة الغالب تقنيا فانتشرت تسميات أصبحت لدى شريحة من المجتمع العربي دليل تطور وتفاخر يكون في غالب الأحيان شفهيا، ولا ينطلق من أنظمة لغوية محددة وإنما هي كلمات مقتطعة من سياقات قد تكون في بعض الأحيان بلا قيمة في لغتها الأصل، ولكن انتقالها عن طريق التقنيات وانتشارها بين شريحة واسعة من المستهلكين في العالم العربي جعلها عنوان تحضر وانفتاح لا يصح الاعتماد عليه في بناء ثقافة جادة.
إن تلك التسميات التي شاعت وانتشرت في ظل غياب التسميات العربية حس به مفكر وكاتب عربي من الطراز الأول الدكتور سعد البازعي، فكان له التفاتة إلى هذه الغربة التي شعر بها وهو العارف باللغة الإنكليزية ومستوياتها الفصيحة العالية التي قد تنكر في بعض الأحيان بعضا من هذه التسميات لأنها تشيع على ألسنة العامة في بلادها وعندما تنتقل إلينا تصبح دليلا على التطور والانفتاح.
إن اليوم العالمي للغة العربية يعود في كل سنة ليجد كثيرا من الدراسات الأكاديمية والدورات التدريبية تنصب على شؤون العربية دون أن نعرف أي عربية نعني؛ العربية التقليدية التاريخية أم الحديثة المعاصرة التي كسرت الطوق الوصفي التقليدي للفصحى وأصبحت تعبر بمفردات وأساليب ليس لها من النظام الفكري والمنطقي للغة العربية إلا الحروف التي تكتب بها بعض الأحيان.
إن اللجوء إلى الا ستمرار في التغاضي عن وصف اللغات السائدة في بالبلاد العربية؛ وأعني بها اللهجات والبحث عن أماكن الالتقاء والافتراق ومحاولة التطوير والتقريب يجعل القادم أكثر صعوبة وانفلاتا عن القواعد التي تحكم مسيرة لغتنا العربية نحو التعبير عن كل حاجاتنا اليومية والتقنية بكل جوانبها هو الرهان الذي ينبغي أن تسعى إليه مؤسسات خدمة اللغة العربية والقائمين على شؤونها في هذه المؤسسات إذا كانت نوايا الضبط والتوحيد في المجال اللغوي على الأقل هي الغاية التي أسست من أجلها تلك الجهات.
هذه الخطوة الأولى ينبغي أن تسبق كل الخطوات التي وفرتها التقنية وهي بلا شك خطوات مهمة، ولكن الأهم أن يعلم القائمون على الشأن اللغوي أن الأولوية هي الوصف المادي المتقن لما نريد أن نعلمه لأبنائنا وللناطقين بغير لغتنا لأنهم يجدون بونا شاسعا بين ما يقرؤونه في الكتب النظرية وبين ما يمارسونه في الواقع اللغوي العربي. وكل ما نرجوه أن تستمر العناية بهذه اللغة الشريفة التي استطاعت أن تقف في وجه كثير من العواصف التي عصفت بأهلها وتراثها وعقيدتها وما زالت تراهن بهمة المخلصين على تجاوز كل العقبات.