سهام القحطاني
أبسط الأشياء أعقدها في التفسير.
تعتبر الحقيقة من أقوى إشكاليات الفلسفة؛ بسبب جدلية ارتباطاتها والنمط الفكري الذي سيطر على دلالتها في كل حقبة زمنية، فما بين الإلحاد و الإيمان والعلم طافت الحقيقة، وكل طواف كان يناقض الطواف الذي قبله، ومع ذلك سنجد أن هناك ركيزة أساسية لذلك الطواف مهما اختلفت المدارس الفلسفية في التفاصيل وهي «التطابق بين العقل أو الفكر والواقع».
في بدايات القول الفلسفي وضع الفلاسفة مقياساً لمفهوم مصدر الحقيقة وهو «الوجود والطبيعة» باعتبار أنهما يقين عيني؛ فكل ما ندركه ويتطابق مع ذلك المصدر هو حقيقة، أو كما ذهب أرسطو «التطابق بين العقل و الشيء»؛ التطابق بين ما ننتجه من تعرّف وصور الوجود في مستواه الإنيوي. «فكل ماله إنية له حقيقة» كما يقول الكندي.
و الإنية تُعتبر من المصطلحات الملازمة لصناعة الحقيقة، باعتبارها المؤشر على الوجود العيني من حيث مرتبته الذاتية» كما يقول الجرجاني، وبعض الفلاسفة يعتبر الإنية هي التي تُشكل للأشياء ماهياتها ويسعى الفكر إلى فهمها ثم إصدار الحكم بين حاصل فهمه ومطابقته لتلك الماهية.
ويعتبر هيدجر إمام هذا الاتجاه؛ فقد رفض اقتران الحقيقة باليقين العيني، لأن الحقيقة لا تتشكل من «صور» بل من «الفهم» ؛ فالفهم هو الذي يصدر حكمنا نحو الأشياء بالحقيقة أو الخطأ، وبذلك فما هو حقيقي أو غير حقيقي يعني التطابق بين فهمنا وطبيعة الأشياء، وهنا تحول لعلاقة الارتباط من اليقين العيني إلى اليقين العقلي؛ لأن التطابق بين العقل والشيء في مستواه العيني أو الشكلاني كما يرى هيدجر ليس علاقة ثابتة ولا يمكن تكرار دلالاتها وفق الروابط الشكلانية، فالشكلانية لا تمثل وحدة موضوعية لكل يقين عيني، وبذلك فالشيء ليس مصدر اختبار للحقيقة مع العقلي إلا إذا تحول إلى قضية-وحدة موضوعية-؛ أي ماهية قابلة للفهم، وبذا يفترض أن كل موجود معرفي أو قابل للمعرفة له مضمونه من الوحدة الموضوعية، ومهمة العقل هنا هي الكشف عن ذلك المضمون، وحاصل ذلك المضمون في علاقة البحث والكشف هو الحقيقة؛ «أي استحضار الشيء و الدخول في مجاله والانفتاح على ظهوره، وتكشفه قبل إصدار أي حكم عليه»-نداء الحقيقة مارتن هيدجر،ترجمة عبدالغفار مكاوي،ص 112-
وبذلك فالحقيقة ليست كما نتصور مجردة من تأثير ماهية الشيء،بل كما توحي لنا تلك الماهية عبر اكتشافها.
أما أفلاطون، فينكر الوجود في يقينه العيني كمصدر للحقيقة، باعتبار أن اليقين العيني ممثل للواقع الحسي المزيف، وليس ممثلاً للعالم المثالي الذي تنبع منه الحقيقة كونه متصفا بخصائص الجوهر.
ويشترك نيتشه مع أفلاطون أن لاحقيقة، مع اختلاف السبب عند الرجلين، فأفلاطون كما ذكرنا سابقاً،أما السبب عند نيتشه فسيطرة الخوف على الإنسان الذي يدفعه للكذب و الوهم،و البلاغة التي تخلق الكذب و الوهم وبالتالي يغيب أي مقياس للصدق و اليقين، ويجتمعان في التأكيد على وجود الواقع الحسي المزيف.
أما فلاسفة التنوير فربطوا الحقيقة باليقين العقلي، فديكارت جعل الحقيقة «مطابقة الفكر لذاته» واعتبر الإنسان هو مصدر الحقيقية، فالله خلق الإنسان مزودا بالمراجع العقلية و اليقينية، أو ما يسميها «الضمان الإلهي».
ثم دخلت الحقيقة في متاهة الجدلية مع هيجل الذي رأى أن التناقض هو مصدر كل حقيقة، وبذلك فكل حقيقة هي لا حقيقة عند هيجل، وهذا التناقض هو الذي يمنح الحقيقة الحركة الجدلية للانفتاح والازدهار، وهذه الحركة تدخل المفاهيم في «الفوضى الخلاّقة».
ثم ارتبطت الحقيقة بالعلم، فأصبح كل ماهو علمي يساوي حقيقة، وكل ما ينكره العلم أو لم يثبته غير حقيقي، وحتى هذه الحقيقة الحاصلة، اختلف العلماء على هل هي مطلقة كما قال نيوتن أو نسبيه كما قال أينشتاين.
وترسم المدرسة البرجماتية للحقيقة مفهوماً لا يشترط تطابق الفكر بالواقع بصورة آلية، وذلك من خلال تطابق ما يعتقده المرء من صحة وسلامة الفكرة وفق حاصلها الناجح بالنسبة للذات المجرِبة، فالقيمة التمثيلية لصحة التطابق هي مكتسباتنا من كل فكرة، التي تتحول إلى تجربة محسوسة وبالتالي تحقق صفة الشيئية أو الواقع، باعتبار أن التجارب قيمة تمثيلية معادلة للأصل، لكن مشكلة هذا التصور غياب معياري الصدقية والثبات اللذين يميزان الحقيقة عن اللاحقيقة.
أما الفلاسفة المسلمون فقد ربطوا الحقيقة بالدين، فكل مثبت بالدين هو حقيقة سواء أكان عينياً أو غيبياً، يدركه العقل بتصوراته المعرفية أو يتخفى خلف حجاب الغيب.
فابن رشد يذهب إلى أن الحقيقة مرتبطة بمصدر التصديق الذي يؤمن به الناس وبتوافق مع طبيعة كل ذات فهناك من يؤمن «بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية»-المصدر السابق-ويجعل ابن رشد الأقاويل الجدلية والخطابية مقام برهان عند الذوات التي تؤمن بهما، وكان هذا التنوع مدخل فساد للحقيقة؛ فإيجاد معادِلات للبرهان في العقائد تحول بعض الحقائق إلى آلهة.