لو جادت الدنيا فدتك بأهلها
أو جاهدت كُتبت عليك حبيبا
نعم يا أبا ناصر لو كانت الدنيا ذات جود لأبقتكم وفدتكم بمن فيها، أو كانت غازية مجاهدة في سبيل الله لجعلتك نفسها وقفاً محبوساً عليك، فكانت لا تعمل شيئاً إلا لك وعنك وبأمرك.
توفى معالي الوالد الأمير الشيخ: سعد بن ناصر السديري نائب أمير المدينة المنورة، ووكيل وزارة الداخلية سابقاً. وما أجمل ذكر محاسن الميت. لقوله صلى الله عليه وسلم (اذكروا محاسن موتاكم). لا سيما إذا كان الميت مثل سهيل. تجود به السيول. وتورق فيه الأشجار وتكثر فيه الفواكه فأبو ناصر معالي الأمير: سعد الناصر السديري رحمه الله. خدمته النفوس لأفعاله التي ترفع الرؤوس. من أسرة كريمة مشهورة. شاركت هذه الدولة المباركة عند التأسيس وفي البناء. شغل عدداً من المناصب القيادية. لديه حكمة بالغة في قوله وعمله، وإن تعجب تعجب من ذكائه ومعرفته. يقال عنه: قاموس القبائل لمعرفته بأنسابهم وشؤونهم. زرته يوماً في بيته وفي مجلسه عدد من محبيه وزائريه، وأخذ يتحدث عن تجربته في العمل في إمارة المدينة. ووزارة الداخلية وقال: إن من المراجعين من تحب أن يكون أخاً لك، ومنهم الأحمق يريد أن يعينك في حل قضيته فيضرك ويضر ويضر نفسه، ومنهم الملول فإنه أوثق ما تكون به لطول الصحبة وتأكدها فيخذلك، ثم قال: وأحب الناس إليّ الصادق وإن تجاوز عليّ. وأكره الكاذب وإن أظهر شيئاً من التقدير والاحترام، لأن الكذب أصل كل فاحشة، وجامع كل سوء، وجالب لمقت الله.
قلت: وماذكره معاليه يتفق مع مارواه أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال: كل الخلال يُطبعُ عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب.
واستطرد معاليه قائلاً: وماهلكت الدول، وماهلكت الممالك ولاسفكت الدماء ظلماً ولاهتكت الأستار بغير النمائم والكذب، ولا أُكدت البغضاء والإحن المردية إلا بالكذب ولا يحظى صاحبه إلا بالمقت والخزي والذل.
قابلت شخصاً من محافظة الغاط بلد المتوفى فأخذتُ في تعزيته فقال رحم الله فقيد الغاط الأمير سعد الناصر السديري.
كنا نسميه في الغاط (الأحنف بن قيس) لدهائه وفصاحته وعظمته. يضرب به المثل لحلمه وأناته.
غَدرت ياموتُ كمْ أفْنيْت من عَدَدٍ
بِمنْ أصَبْتَ وَكمْ أسَكتَّ مِنْ لَجَبِ
كان رحمه الله محباً للضعفاء والمساكين يقول: والمسلم يجعل دينه دليلاً له وسراجاً يستضيء به فحيثما سلك به سلك. وحيثما أوقفه وقف. فشارع الشريعة وباعث الرسول صلى الله عليه وسلم ومرتب الأوامر والنواهي أعلم بطريق الحق، وأدرى بعواقب السلامة ومغبات النجاة من كل ناظر لنفسه بزعمه، وباعث بقياسه في ظنه.
كان رحمه الله يوصي بالوصل ويقول: والوصل حظ رفيع، ومرتبة سرية، ودرجة عالية، وسعد طالع وسرور من الله دائم.
قلت: ولولا أن الدنيا ممر ومحنة وكدر، والجنة دار جزاء وأمان من المكاره، لحكمت أن وصل من له حق إما لكبر سنه، أو لمكانته هو الصفاء الذي لا كدر فيه، والفرح الذي لا شائبة، ولا حزن معه، وكمال الأماني، ومنتهى الأراجي، فما للذات الدنيا من الوقع في النفس ما للوصل.
كان رحمه الله فيما أعلم عنه عفيفاً متعاوناً وبعيداً عن كل ما يشين قريباً من كل مايزين.
ولقد ضمني مجلس مع من كنتُ أحبُ، فلم أجل خاطري في فن من فنون الوصل إلا وجدته مقصراً عن مرادي وغير شافٍ وجدي ولا قاضٍ أقل حاجة من حاجاتي، ووجدتني كلما ازددتُ دنواً مع من أحب ازددتُ ولوعا، وقدحت زنادُ الشوق نار الوجد بين ضلوعي، وهل فيما وافق إعجاب المخلوقين يعدل حزن فراق أبي ناصر. معالي الأمير: سعد بن ناصر السديري.
وكان رحمه الله مع هذا من أهل الأدب والحذق والخلق والذكاء، والنبل والتوقد، مع الشرف العظيم والمنصب الفخم والجاه العريض. وعنده إن عدمَ قيام المرء بواجبه أشدُ من تجرع غصص الأسى، والعض على نقيف الحنظل.
رحمك يا سعد الناصر.
أساعة توديعكَ أم ساعة الحشرِ
وليلة بيني منك أم ليلة النشر
كان رحمه الله فاضلاً نبيلاً فصيحاً من أهل القرآن والسير. ومن الأسباب المتمناة في المسؤول أن يهبه الله عقلاً كبيراً ونية مخلصة في النصح لأمته، فأنت يا أبا ناصر نظيف في قولك وعملك، حسن المأخذ، دفيق المنفذ، متمكن البيان، مرهف اللسان، جليل الحلم، واسع الاطلاع، شديد الاحتمال إذا خاطبك الجاهل، محمود الأخلاق، جميل المساعدة، يكره المباعدة، نبيل المداخلة، واضح المعاني كارهاً للأماني، طيب الأصل، كثير البر، صحيح الأمانة، مأمون الخيانة، كريم النفس، نافذ الحس، صحيح الحدس، مضمون العون، كامل الصون، مشهور الوفاء، سهل الانقياد للحق، حسن الاعتقاد، كريم الذراع، واسع الصدر، متخلقاً بالصبر، يألف الإخلاص، لا يعرف الاعتذار، وأن مثل أبي ناصر نعتز به ونفتخر، وبه يكمل الأنس وتتجلى الأحزان، وتطيب الأحوال، ولن يفقد من هذه صفاته عوناً جميلاً، ورأياً حسناً، فوفق من اختاره لهذا المنصب.
وَلَّى فولّى جميلُ الصبرِ يتبعه
وصرَّحَ الدمعُ ما تُخفيه أضلعُهُ
أثني عليك بما خدمت به بلدك من خدمة أنت لها فاعل، فلساني يشهد لك بما عملته وقدمته، فالرياح قد تضر، وأنت سهل تنفع فليتها مثلك، فأنت من قوم أهل خدمة وحمية وأنفة.
وما للمرء خير في حياة
إذا ما عد من سقط المتاع
يا أبا ناصر: حزتَ المجد بالفعل والكرم، تملك عقلاً مشرِفاً - بكسر الراء-، فعلك دواء لا داء فأنت رجل دولة تحب الحق والصدق، حليم عند الغضب، إن عزَّ الوجهاء بعقولهم لأنهم باحترام الناس لهم يقوون ويمتنعون على الأعداء.
أنت فارس الكلمة إذا اجتمع المحدثون، فإذا اجتمع أهل البلاغة كنت أبلغم، وإن غضبت لم يكن في ردك فحش، ولا خنى، فعزتك ومنعتك إنما هي بحسن أخلاقك. تحترم الآخرين فيحترموك، عقلك كالشكيمة في فم الحصان يمنعك عن الجهل.
انفرد رحمه الله بخصائص لا يشاركه فيها أحد ولا يوصف بها غيره، فاق أقرانه بالحذق والذكاء
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت قائله
ولو سكتوا أثنت عليك اللياليا
الناس يرون ويلمسون أفعاله، لأنها لا تتكلم، في الحقيقة، وإنما يستدل بها على جودك يا أبا ناصر فأنت تجود على المحتاج، وتكره أن يذاع عنك لمكانتك من النبل.
أنت أكرم من عرفتُ، فلا يجري في مجلسك غير ذكر الفروسية والطراد، فلا يسمع غير ذلك، فأول شيء عشقته هو المعالي فالمعالي تولت تربيتك وأنت تميل إليها وتحبها حب الصبي من رباه.
عشت عيشة القمرين، يحيا الناس بضوئهما، فذكرك يفضل الأذكار كالربيع في الأزمنة، لك هيبة في عملك، جميع محاسن الدنيا مجتمعة فيك، وجميع المقابح منفية عنك، فهو رحمه الله من أهل الذكر الحسن فأفعاله تقوم له مقام النسب، حتى وإن لم يقل أنا فلان، فأفعاله كافية في الدلالة عليه، كما يستدل بالغصن على الأصل.
وإذا واجهت من امرئ أعراقه
وأصوله فانظر إلى ما يصنع
يا أبا ناصر: تمشي من بين أعدائك متبختراً. وعليك من المحامد ما يقي عرضك من الذم أكثر مما يقي السلاح، تعطي وتمنع، تعطي المساكين وتمنع من ليس بمسكين. تصل إلى من نأى عنك. فأنت كالسحابة البيضاء ذات الماء، فجميع محاسن الدنيا مجتمعة فيك، وجميع المقابح منفية عنك. تفصل بين الأمرين المتشابهين برأيك. ولو كانا ممتزجين امتزاج الماء باللبن. جعلك الله لبلدك عوضاً عن الشمس عند فقد الشمس في الليل لبست قميصاً ضافياً من المكارم ومعدناً من المعالي، فأنت فعلاً لها تؤخذ منك لا تُعطى لها. فلست في حاجة إلى ثناء المثنين ومدح المادحين، وكتابتي عما عملته في تقصيري في خدمتك، وما أهملته من القيام بحقك.
إني أراك من المكارم عسكراً
في عسكر ومن المعالي معدنا
يا أبا ناصر: أتمنى أن تكون عني راضياً، فإذا رضيت لم أكترث بعد ذلك بغضب الآخرين. في هذه الحالة يكون أهون الازدراء والأرزاء عليّ فهو رزء لو كان مما يوزن لم يستحق أن يوزن لخفته.
** **
- د. عبدالرحمن بن محمد الغزي