عبدالرحمن الحبيب
قد لا يبدو الأمر جديداً، لكنه هذه المرة يأتي من أحد أكبر رواد تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في كتاب صدر مؤخراً بعنوان «الموجة القادمة» (The Coming Wave)، فَحْواه أن الذكاء الاصطناعي سيخلق ازدهاراً هائلاً، لكننا قريباً سنعيش محاصرين به.. سوف ينظم حياتنا، ويدير أعمالنا، ويدير الخدمات الحكومية الأساسية.. وليست فقط تكنولوجية بل حتى في جسدك ستعيش في عالم مليء بطابعات الحمض النووي وأجهزة الكمبيوتر الكمومية ومسببات الأمراض الهندسية.. وحتى الأسلحة المستقلة والمساعدين الآليين والطاقة الوفيرة. لا أحد منا مستعد.. فهذا الذكاء يهدد أيضاً الدولة الوطنية، أساس النظام العالمي، وبينما تسير الحكومات غافلة نحو الكارثة، فإننا نواجه معضلة وجودية: أضرار غير مسبوقة من جهة، والتهديد بالتحكم المفرط من جهة أخرى. هل يمكننا النجاة، ربما لكننا نشق طريقاً ضيقاً بين الكارثة والمعاناة للسيطرة على الوضع؟
الكتاب يحذر من فوضى التوسع التكنولوجي الذي يجمع بين الذكاء الاصطناعي والبيولوجيا التركيبية بما يشمل التلاعب بالأحماض النووية، ويهدد وجودنا ذاته وليس لدينا سوى معبر ضيق يمكن من خلاله احتواء تلك المخاطر قبل فوات الأوان.. ورغم أن هناك سلسلة من المقترحات في نهاية الكتاب، إلا أنها للأسف غير مطمئنة.. ويخبرنا الكتاب أن «الموجة قادمة»، ثم يكرر «قادمة»، وأيضاً يؤكد التكرار أن «الموجة القادمة قادمة بالفعل».
فهل هذه المخاطر مبالغة أم توقع محتمل أم توقع شبه مؤكد؟ فقد كُتب الكثير عن مخاطر الذكاء الاصطناعي، لكن هذا الكتاب أثار ضجة في الأوساط التكنولوجية حيث قال عنه بيل جيتس إنه «دليل ممتاز للعبور في أوقات غير مسبوقة»؛ فيما اعتبره دانييل كانيمان الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد 2002 «قراءة أساسية».. كما أثار اهتمام الأوساط الإعلامية في الغرب واعتبرته كبرى الصحف في صدارة قائمة كتاب السنة 2023، خاصة أن مؤلفه يأتي من قلب هذه التكنولوجيا وأحد مؤسسي شركة DeepMind الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، التي استحوذت عليها جوجل عام 2014، وهو مصطفى سليمان وشاركه بالتأليف مايكل باسكار.
ويتوقع سليمان أن يكتشف الذكاء الاصطناعي قريباً الأدوية المعجزة، ويشخص الأمراض النادرة، ويدير المستودعات، ويحسن حركة المرور، ويصمم مدناً مستدامة. إنما المشكلة هي أن نفس التقنيات التي تحقق لنا الروائع يمكنها أن تسبب الكوارث، فما يتيح لنا علاج مرض ما قد يسبب مرضاً آخر.. كما أن سهولة تحرير الحمض النووي والتسلسل الجيني سيتمكن قريباً أي شخص من إنشاء مختبر جينات في مرآب منزله وسيكون إغراء التلاعب بالجينوم البشري هائلاً.. وإذا كانت الأوبئة تقتل الملايين فإن «الفيروسات المصممة بواسطة الذكاء الاصطناعي والهندسة البيولوجية التركيبية يمكن أن تتسبب بأكثر من مليار حالة وفاة في غضون أشهر».
أيضاً، ثمة فوضى ستسببها الأنظمة الاصطناعية فائقة الذكاء لأنها ستزيد من فعالية الإنسان بشكل كبير في فترة قصيرة جداً، حسب الكتاب. وسواء كان ذلك عن طريق الهجمات السيبرانية، أو مسببات الأمراض محلية الصنع، أو فقدان الوظائف بسبب التغير التكنولوجي، أو المعلومات المضللة التي تؤدي إلى تفاقم عدم الاستقرار السياسي، فإن مؤسساتنا ليست مستعدة لهذا التسونامي التكنولوجي. هذه التكنولوجيا قد تغمرنا بالدمار سواء كان الاستخدام المتعمد لأدوات قوية كسلاح أو حوادث مؤسفة على نطاق غير مسبوق، فهناك الكثير مما يمكن أن يحدث بشكل خاطئ.
وعلى الرغم من هذه المخاطر، يشك سليمان في أن أي دولة ستبذل الجهود لاحتواء هذه التقنيات، فالدول تعتمد بشكل كبير على الفوائد الاقتصادية للذكاء الاصطناعي. هذه هي المعضلة الأساسية: لا يمكننا أن نتحمل تكاليف عدم بناء التكنولوجيا ذاتها التي قد تتسبب في انقراضنا. مع الذكاء الاصطناعي في شقيه التكنولوجي والبيولوجي هناك أيضاً تقنيات أخرى من المحتمل أن تغير قواعد اللعبة، مثل الحوسبة الكمومية وقوة الاندماج.. هذه التقنيات لا تتطور بمعزل عن غيرها؛ إنها تسير بشكل متآزر، فالتقدم في أحد المجالات يحفز التقدم في المجالات الأخرى.
ثمة شيء آخر، هناك فيل كبير جداً في الغرفة وهو تغير المناخ. على عكس الكارثة التي قد تحدث في المستقبل بفضل الذكاء الاصطناعي، فإن حالة الكوارث المناخية تحدث الآن.. لكن المريح أن المؤلف متفائل هذه المرة معتقداً أن الذكاء الاصطناعي سيحل المشاكل المناخية.
كيف يمكن احتواء معضلة الذكاء الاصطناعي؟ يضع الكتاب عدة مقترحات مثل: التنظيم القوي والتعاون الدولي وعمل معاهدة دولية للضبط والتقنين.. وأن تنفق شركات الذكاء الاصطناعي 20 % من أموال البحث والتطوير على أبحاث السلامة.. وأن يحظر الذكاء الاصطناعي في الإعلانات السياسية.. وأن تكون هناك رقابة صارمة ..الخ.
الكتاب يستمد من الماضي لمساعدتنا على فهم الحاضر والاستعداد للمستقبل، عبر سرديات تاريخية موجزة عن التقدم التكنولوجي، من الثورة الصناعية إلى محرك الاحتراق إلى الأيام الأولى للإنترنت.. الموجات التكنولوجية لا يمكن إيقافها تقريباً، ولا ينبغي لنا أن نوقفها على أي حال، لأن الركود التكنولوجي ليس هو الحل.. «الحضارة الحديثة تكتب الشيكات، ولا يمكن صرفها إلا من خلال التطور التكنولوجي المستمر».. يبدو أن مهمة الحفاظ على السيطرة على التقنيات فائقة الذكاء هي التحدي الأساسي لعصرنا.