محمد بن عيسى الكنعان
مضى على العدوان الإسرائيلي الدموي على غزة أكثر من 60 يومًا؛ ارتكبت خلال الحكومة الصهيونية أبشع الجرائم التي شاهدها العالم مباشرةً بالصوت والصورة، بشهداء تجاوز عددهم الـ 16 ألفاً، ثلثهم من الأطفال، وأكثر من 40 ألف مصاب. خلال هذا العدوان الهمجي المتواصل المدعوم من الحكومات الغربية (الأمريكية والأوروبية) لم تستطع دويلة إسرائيل كسر إرادة الشعب الفلسطيني المقاوم، وزحزحة الإنسان الفلسطيني الصامد عن أرضه في وجه الآلة الصهيونية المجرمة، أو يستطيع هذا الكيان الغاصب أن يُحقق شيئًا من أهدافها بدايةً بتهجير سكان القطاع، ومرورًا باستعادة الأسرى، ونهايةً باجتثاث المقاومة، بل على العكس عرف اليهود الصهاينة - ولأول مرة في تاريخ حروبهم - معنى الرعب، وذاقوا الألم، وتجرعوا مرارة الإهانة أمام العالم، وهم يرون جيشهم المصنوع من الوهم يسقط في وحل غزة بدبابات الميركافا والآليات المدرعة.
الصمود الملحمي والمقاومة الأسطورية التي أبداها الشعب الفلسطيني أمام دولة مُدججة بأحدث الأسلحة النوعية، ومدعومة من حكومات الغرب، وأجهزة استخباراتها جعلت شعوب العالم تُعيد حساباتها، وتتابع تطورات المشهد الجاري في غزة وأكنافها، وتدقق في ملامح الصورة الملطخة بالدم التي طالما جاءتها ناقصة أو مفقودة في بعض أجزائها؛ لذلك حدثت أكبر مفارقة في العالم الغربي بسبب الحرب الإجرامية والإبادة الجماعية التي ارتكبتها وترتكبها حكومة الكيان الصهيوني في غزة الأبية. المفارقة في موقف الشعوب الغربية وبرلماناتها، وفي عدد من المؤثرين والمشاهير على منصات التواصل الاجتماعي في مقابل موقف الحكومات الغربية الداعم لإسرائيل، ومنحها الضوء الأخضر لارتكاب مزيدٍ من المذابح في حق الإنسان الفلسطيني، لدرجة أن بعض تلك الحكومات (المختطفة) تُشدد على عدم وقف إطلاق النار، وكأنها تطلق يد إسرائيل لتغور أكثر في الدم الفلسطيني، وبعضها منع - بالقوة - التعاطف مع غزة وفلسطين بشكل عام خلافًا لقيمه الليبرالية، أو حرية التعبير التي صدع رؤوسنا بها، أو الحق الديمقراطي الذي يؤمن به. تلك المفارقة اتضحت أكثر بتلك المسيرة الغنائية التي بدأت في السويد وترددت بأكثر من بلد أوروبي وصارت أيقونة بين الشعوب، التي استجابت لنداء الحق وصوت الفطرة الإنسانية، ووقفت مع غزة وتطالب بموقف المذبحة، أو في تلك المسيرات المليونية في أكثر من بلد غربي حتى وصلت واشنطن على بعد خطوات من المكتب البيضاوي، الذي يتم فيه التوقيع على دعم آلة الحرب الإسرائيلية بمليارات الدولارات والأسلحة الفتاكة، كما وصلت نيويورك وشيكاغو إحدى معاقل اليهود، وتاليًا تكساس رعاة البقر بمسيرة ضخمة قدرت بـ 300 ألف من الأمريكان، حتى قال أحد الأمريكان على مواقع التواصل إن غزة لم تتحرر ولكنها حررت الشعب الأمريكي من الدعاية الصهيونية. تلك المفارقة تجلت في مواقف الشرفاء من النواب الغربيين وهم يهزون قباب برلماناتهم بإعلان التعاطف مع الفلسطينيين وتجريم الإسرائيليين، فلبسوا الكوفية الفلسطينية، وحملوا العلم الفلسطيني، كما ظهر بعض فناني الغرب على مسارح بلدانهم وهو يهتفون (فري فري فلستينا)! هذه المشاهد لم تكن حاضرة في أحداث فلسطينية سابقة، أو متوقعة في هذه الحرب الدموية ضد غزة. ناهيك عن إقبال الغربيين على القراءة عن الإسلام والقرآن تحديدًا، وكيف أثر هذا الدين على الإنسان الفلسطيني البسيط ونحه - بأمر الله - القوة والإيمان بالحق؛ فظهر على الشاشات يحمد الله وطفله بين يديه قد فاضت روحه الطاهرة لبارئها.
إن صمود غزة الأسطوري كان السبب المباشر في استعادة ضمير العالم بعد أن اختطفه الغرب لعقود تحت أكاذيب الدفاع عن حقوق الإنسان، وحماية القانون الدولي التي طالما مارسها قادتهم، وتشدق بها ساستهم، ودندن عليها إعلامهم الموجه في نزاعات سابقة واعتداءات سافرة، ففضحتهم غزة واستعادت الضمير المخطوف من أقبية أوكرانيا. وقالت للعالم، وبلغة واحدة وواضحة، وعلى الهواء مباشرةً أن هناك شعباً يُذبح باسم القانون الدولي، فتحركت الشعوب الحرة والشريفة بعد أن فشلت الأمم المتحدة كالعادة في تحمل مسؤوليتها وإلزام إسرائيل باحترام القانون الدولي وتطبيق قرارات مجلس الأمن. أما المفارقة الأكبر فتتمثل في منع الإنسان الغربي وفي بلده من حرية التعبير، منعه من نقد إسرائيل بحجة معاداة السامية، بينما الإسرائيليون أنفسهم ينتقدونها وبقوة.