حسن اليمني
كتب الأستاذ عبد الرحمن الراشد مقالاً في جريدة الشرق الأوسط بعنوان (كيف تغيرت غزة)، وكان مقالاً ناعم المنطق جميل العبارة، ويبدو أنه نبت في مزرعة «أوسلو» وارتوى بالمناخ الواقعي فظهر كزهر في أول نباته جميل يسر العين والقلب، ولكن وكما ذكر الكاتب لم يدم ذلك الحلم المبني على واقع وقته، مدة قصيرة حتى سحقت غزة بأطنان من القنابل المدمرة وتصبح غزة بلا ماء أو غذاء أو دواء ولا حتى كهرباء أو وقود، إضافة لتعطل المشافي واستهلاك مخازن الأكفان مع بقاء الجثث تحت ركام المباني.
لقد كان الكاتب منصفًا حين انطلق من عملية اغتيال إسحاق رابين على يد الإرهاب الإسرائيلي، فكانت نقطة مفصلية تداعت لها تغيرات كثيرة مهدت للوصول لما حدث لغزة اليوم، مروراً برفض حماس اتفاقية (أوسلو) وظهور العنف المتبادل بما أدى إلى وأد الحلم الجميل الذي ابتدأ به الأستاذ الراشد عن حال غزة، بالمناسبة غزة ليست فلسطين وإنما جزء منها والانقلاب الإسرائيلي على اتفاقية أوسلو شملت الضفة الغربية أيضًا، بل وتصاعدت حتى وصلت إلى محاصرة رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات الذي وقَّع اتفاقية أوسلو مع رابين بالطريقة ذاتها التي تحاصر بها اليوم كل غزة بمنع الماء والكهرباء والغذاء والدواء والوقود، وكما يغلق اليوم معبر رفح أغلق عماد لحود بث مناشدة عرفات للقادة العرب في مؤتمر القمة عام 2002م، ومضى عرفات وجاء عباس ليرأس قوة التنسيق مع الكيان الصهيوني في مواجهة أي رد فعل فلسطيني على الإرهاب الإسرائيلي المتكرر في بلدات الضفة الغربية.
حماس في غزة رفضت التنسيق الأمني مع كيان الاحتلال وأرادت مشاركة السلطة الفلسطينية في رام الله من خلال الانتخابات التشريعية وحصدت غالبية الأصوات، فكان ذلك مؤشرًا بهدم اتفاقية أوسلو ما عطل جهود تشكيل الحكومة وتدعيم اتفاق رام الله بغزة بما خلق الانشقاق الذي أدى لخروج سلطة رام الله من غزة وتحطيم أروقة الحلم الجميل الذي بدأ بمطار غزة وانطلاق مشروع مينائها البحري لتعود القضية الفلسطينية إلى عهد ما قبل أوسلو مع بقاء التنسيق الأمني مقابل احتواء وتهجين للسلطة الفلسطينية في رام الله، في حين انطلق الكيان الصهيوني في العبث بأمن واستقرار مدن الضفة الغربية وتنغيص عيش غزة مع حروب خاطفة تنتهي في الغالب بعد أسابيع مخلفة الدمار والقتل والبؤس والشقاء في غزة.
وطيلة سنوات حاولت السلطة الفلسطينية إيجاد فرص للعودة لاتفاقية أوسلو والبحث عن حلول تفتح منافذ لسلام وهدوء إلا أن الكيان المحتل من شامير إلى شارون وإلى نتنياهو كان عازمًا وبكل قوة على تجاوز تلك الاتفاقية بعدم الإصغاء لمناشدات وتوسلات رئيس السلطة الفلسطينية بل وإغلاق تام للتواصل معه، وكانت بالتالي سنوات بؤس عجاف تكدست فيها سجون الاحتلال بالأطفال والنساء والشيوخ والشباب من فلسطين، مع هدم البيوت وملاحقة أقارب السجين بما حطم أي حلم أو أمل يعطي مددًا للصبر والانتظار لعل وعسى.
كان اغتيال إسحاق رابين على يد إرهابيين صهاينة هو في الحقيقة اغتيال لاتفاق أوسلو أظهره وأثبته سلوك الكيان المحتل مع أراضي السلطة الفلسطينية بما في ذلك مقرها في رام الله وإلى حبس وخنق قطاع غزة عن العالم، وإزاء ذلك اكتفت السلطة الفلسطينية بالتمسك بخيار السلام بالمناشدات وتوسل التواصل مقابل تجاهل تام ليس من الكيان وحده بل حتى مع الولايات المتحدة الأمريكية بطريقة سحق المسحوق ودفنه لتصبح السلطة دون أي فعالية أكثر من تنسيق أمني يخدم الكيان في مقابل الوجود فقط، وبالتالي لم يعد للحلم الذي ظهر قبل عشرين عامًا في غفلة أو غفوة الجنون أي بقاء ولو حتى للتذكار، توسعت المغتصبات وانتشرت حتى تكاد تصل مقر المقاطعة في رام الله، وتجبَّرَ وتغطرسَ المتطرفون الصهاينة في استفزاز أهل فلسطين والمسلمين كافة في انتهاك حرمة المسجد الأقصى والعبث به مرة تلو مرة بكل صلف وتحدٍ إلى أن وصل التفكير بهدم مساكن الفلسطينيين المجاورين للأقصى بهدف تصفية القدس من الوجود الفلسطيني.
انعدمت الحلول ووئد كل أمل أو حسن ظن، بل وبدأ العالم كله بإلقاء القضية الفلسطينية في أرشيف التاريخ ولم يعد أحد يهتم به أمام مستجدات أحداث هنا وهناك سياسية وعسكرية واقتصادية تلهي هذا العالم حتى أنسته وجود صراع عربي -إسرائيلي، وفجأة تنتفض غزة كالذي عادت له الروح بعد الموت أو خلاله لتصدم العالم كله في فجر السابع من أكتوبر وتعيد برمجة عقله وتفكيره ليعود يفتش في أدراج أرشيفه القديم عن قضية تسمى فلسطين، وباستدراك المتجاهل عاد الحديث عن حل الدولتين وإعادة بحث القضية الفلسطينية وتقديمها للمحفل الدولي من جديد، لكن المعضلة كانت ظهور القوة الفلسطينية المفاجئة التي تفرض حضورها ووجودها عنوة وبالقوة المسلحة، وكان هذا بمثابة تحدٍ لا يقبل أنصاف الحلول، بقاء الكيان المحتل أو زواله أصبح اليوم على المحك وفي اختبار عسير وصعب.
اختار الكيان الصهيوني (نكون أو لا نكون) في حرب مع مقاومة فلسطينية مستعدة، دخلت الشهر الثالث بخسائر عظيمة في صفوف الكيان المحتل بما لم يخسره في أي حرب منذ ظهور عصاباته في فلسطين قبل العام 1947م وحتى اليوم، ويكرر أكثر من مسئول في الكيان بأنهم اليوم في حرب وجودية أخطر من حرب النشأة والتأسيس، وهو ما لم يكن أبدًا وإطلاقًا في الحسبان خصوصًا وأن دول عربية تسابقت في تجاوز صعوبات الحلول مع الكيان من خلال إقامة أفضل العلاقات معه كخيار لمسار السلام بدل الحرب للوصول لأفضل الحلول أو هكذا يُعتقد، لكن كل شيء انقلب فجأة بصورة متعاكسة متضاربة تصيب الكيان الصهيوني وحلفاءه بالدوار والغثيان، الكثير من حلفاء الكيان كان يريد منه سرعة القضاء على صحوة ويقظة القضية الفلسطينية حتى لا تربك حساباته لكن هيهات، إلى اليوم وبعد مضي أكثر من سبعين يومًا لم تستطع قوة الكيان الصهيوني من نيل ولو رشفة أمل بالنصر بل انشغلت تحصي أعداد قتلاها وجرحاها والبحث عن حلول لإخفاء آلياتها المدمرة.
أعود لقصة المقال الرائع للأستاذ الراشد وأتساءل إن كان الحلم الذي بدأ اليوم يراود الكثير من كل الأطراف سواء مع الكيان الصهيوني أو ضده وعودة الحديث عن ضرورة قيام دولة فلسطينية حرة مستقلة بكل طيف ألوانه ونسائم رؤياه أفضل أم حلم أوسلو الذي بنى مطارًا في غزة لم تقلع منة طائرة.