د.عبدالله البريدي
الوصفُ هو قنصُ الوجودِ، وهو شرطٌ للمعرفة البشرية. وذلك أن اللغة على الحقيقة هي التي تثقب كُوةً في جدار الوجود، لكي نلج عبرها إلى هذا الوجود الذي أدركناه بعقولنا أو بحواسنا أو بهذه وتلك. قد يكون هذا التوصيف غامضاً للبعض، مما يجعلني أبادر بطرح مثال تطبيقي توضيحي مبسط. نحن نعيش في وجود (عالَم) يتفاعل فيه الإنسان مع بيئته، ويدرك قدراً من الوجود عبر مصادر متنوعة كالكتب الدينية والطروحات الفلسفية والاكتشافات العلمية. هذا يعني أن قدراً من الوجود هو محجوب عنا، وهو الوجود الذي لم ندركه بعدُ، وكأن بيننا وبين حقائقه جداراً فاصلاً. ويحدث أن يعمد باحث إلى اكتشاف شيء في هذا الوجود عبر بحث علمي، فيكون بمثابة من أحدث في هذا الجدار الفاصل فتحة، ليعاين عبرها أسرار هذا الشيء، وحينما يظفر بهذه الأسرار ويتعقلها جيداً، فإنه يبادر بالتعريف بها لغيره، ولا يكون ذلك إلا عبر اللغة، وبهذا تكون اللغة هي منفذنا على الحقيقة إلى أسرار هذا الوجود.
تقريرنا لمحورية الوصف في الحصول على المعرفة، يدفعنا إلى التعرف على سرِّ من أسرار بزوغ العرب (العربية اللسان) في العلم بمختلف فروعه، في مدة وجيزة بُعيد نزول الكتاب السماوي الملهم: القرآن العظيم، حيث بلغ العرب في اللغة وأفانينها شأواً عظيماً، فالقدرة اللغوية الفائقة عند العرب تجعلهم أقدر الناس على وصف الوجود المُدرَك، وهو ما يجعلنا نعيد النظر في مكانة اللغة العربية وأهميتها في التحضر واستملاك أسباب القوة المعنوية والمادية على حد سواء، فكثير منَّا يتوهم أن اللغة ومنها البلاغة (القدرة التوصيفية الدقيقة الوجيزة العميقة) هي ضرب من الجمال الأدبي -شعراً ونثراً- فحسب، وما درى أنها ضرب من اقتناص الحقيقة، ومن ثمَّ فالبلاغة -بالذات علم المعاني وعلم البيان- هي شرط أساس للعلم، ولا يقوم للعلم قائمة دونها، وهو ما جعل أسلافنا يعتنون أيما عناية بعلم اللغة بمختلف فروعه، مع وضع اللغة في قمة علوم الآلة (السبب الموصل لعلوم الغاية). قد يستغرب البعض حديثي هذا، ويعدونه عاطفياً أو حتى سطحياً. حسناً، لنأخذ هذه المسألة برفق، ولنعرض أبرز ملامحها بقالب برهاني مبسط.
ما علاقة اللغة ومنها البلاغة بالعلم؟ لنأخذ شاهداً واحداً على هذا الجانب وليكن في إطار العلم التجريبي الحديث. لنفترض أن باحثاً يجري تجربة في مختبره، لاكتشاف عنصر جديد من عناصر الطبيعة، أو ليكتشف ماهية عنصر غريب ويقوم بتوصيفه بشكل دقيق. التجربة بكماء، ولا تنطق بحرف، ووحده الباحث يُنطقها، وكلما كانت بلاغته أعلى، كان حظه بحقائقها أوفر، فهو ينقل لنا ما راه وما فكر فيه إزاءها، فنحن لا نطيق معاينة ما شاهده والتفكير فيما عايشه، وكل ما لدينا هو فقط الوصف الذي قاله لنا هذا الباحث، وهنا نستدني جابر بن حيان وهو يقول لنا: (إننا نذكر في هذه الكتب خواص ما رأيناه فقط دون ما سمعناه، أو قيل لنا وقرأناه، بعد أن امتحنّاه وجرَّبناه، فما صحَّ أوردناه، وما بطل رفضناه).
وما سبق يجعلنا نقرر باطمئنان كافٍ أن القدرة التوصيفية -وهي قدرة لغوية بلاغية- تلعب الدور الأكبر في الدقة التواصلية مع أطراف مجتمع المعرفة، وهذا بافتراض أن ذلك الباحث كان دقيقاً في تجربته وإجراءاتها المنهجية. وبهذا، تتبين لنا الأهمية القصوى للقدرة اللغوية ومنها القدرة البلاغية التوصيفية في تأسيس العلوم وفي نموها وتقدمها.
ومن سمات القدرة التوصيفية في رحاب العلم: الدقة، والوضوح، والإيجاز، وهذه هي أعمدة البلاغة كما نعلم، وهنا نتذكر ما يُسمى بـ شفرة أو موس أوكام، حيث ينص هذا المنظِّر على أهمية التعبير البليغ عن الفرض العلمي، ولقد حقق علماؤنا في التراث سبقاً في تقرير هذا المبدأ المحوري، ولقد أبنتُ عن ذلك في كتابي: ابن تيمية فيلسوف الفطرة (ط2، 2022)، وهذا ليس داخلاً في موضوعنا الجوهري، مما يجعلني أكف عن الخوض فيه.
أعود إلى القدرة التوصيفية الفائقة عند العرب، ولنتأمل هذا المشهد العفوي البديع:
(قال الكميت لذي الرّمّة: كيف ترى تشبيهي؟ قال: إذا شبّهتَ قاربتَ، وإذا شبّهتُ طبّقتُ؛ قال: لأنك شبّهتَ ما رأيتَ، وأنا شبّهتُ ما سمعتُ، فإذا قاربتُ فقد بالغتُ؛ فقال ذو الرّمة: هذا هو الحقّ). دعونا نقف هذه الوقفات الخاطفة عند هذا المشهد:
1) بذل الجهد في الارتقاء بالقدرة التوصيفية عبر الملاحظة العنيدة والتعبيرية الدقيقة، ومحاكاة الأقدر على التوصيف. وهذا يعني أن ثمة حرصاً كبيراً على بلوغ أعلى درجات التوصفية، وذلك أن الشاعر الكميت يسأل أمكن الشعراء في الوصف (ذا الرمة) عن قدرته التوصيفية، فهو يريد أن يقيس قدرته التوصيفية على مسطرة ذي الرمة الدقيقة.
2) هنالك عناية بالغة بتصنيف القدرة التوصيفية، حيث إننا نرى أن التوصيف هنا شطر إلى: توصيف مطابق، وتوصيف مقارب، فأما الأول فهو لشاعر الصحراء لكونه قد عايش الحدث وعاينه، وأما الكميت فهو يجهد لأن ينقل ما سمعه عن الصحراء في مقاربة توصيفية.
3) مما يدل على عنايتهم بتوصيف القدرات التوصيفية ما نقل عن الأصمعي، حيث يقول:
(كان ذو الرمة أشعر الناس إذا شبه ولم يكن بالملفق، حدثني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: كان لذي الرمة حظ في حسن التشبيه لم يكن لأحد من الإسلاميين، وكان علماؤنا يقولون: أحسن الجاهلية تشبيهاً امرؤ القيس وأحسن أهل الإسلام تشبيهاً ذو الرمة).
4) توخي أعلى درجات الصدق في «السلم التوصيفي»، إذ لا أحد يدعي ما ليس له، فالكميت رضي بالتوصيف المقارب، وأقر ذو الرمة بأنه قد لامس التوصيف المطابق.
5) الافتخار بالقدرة التوصيفية مع تعريض الوصف للنقد الصارم، وهنا نستذكر مقولة شذرية خالدة لذي الرمة حيث يقول: (إذا قلت: كأن، فلم أجد وأحسِن، فقطع الله لساني). هل ثمة أحد يدعو بقطع لسانه، دون أن يكون متوافراً على ما عساه يعفيه من القطع؟
لقد احتاج الفكر الغربي لقرون متطاولة، حتى يصل - في عام 1921 مع فيتجنشتاين- إلى ما بات يُسمى بـ «المنعطف اللغوي» The Linguistic Turn، إذ حينها جرى الاعتراف بمركزية اللغة في الفلسفة والعلم. ومن المدهش - اللا مفكر فيه عند الكثيرين- أن نزول القرآن الكريم في شهر رمضان عام 13 قبل الهجرة، الموافق لشهر أغسطس من عام 610م يعد على وجه الحقيقة «المنعطف اللغوي» الأول في تاريخ البشرية، إذ لأول مرة في الوجود تدخل اللغة لتكون هي المعجزة الرئيسة في رسالة سماوية، حيث كان الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، وفي هذا من السبق والإلهام ما يحتاج إلى مجلدات ضخمة لاستكناه أبعاده والإحاطة بمراميه ومساربه. ولعله يكفي هذا النص شرف الإشارة إلى هذه الحقيقة الساطعة، مع التقاطات خاطفة على جنباتها.
لقد فاق العرب قبل الإسلام سائر الأمم في القدرة التوصيفية بلا شك، وبالذات في القدرة التوصيفية الشعرية المكثفة، ثم جاء القرآن الكريم -بمنعطفه اللغوي الجذري- ليدفعهم إلى أقاصي التوصيف؛ في السياقات العلمية والتاريخية والأدبية والسردية، حيث فتح لهم مسارب جديدة في التعبير الدقيق الناجع البليغ؛ ففجَّر لديهم وبهم القدرات التعبيرية التوصيفية، فمتَّنوا المتون التي تروعك دقتها ونضارتها وكثافتها، حيث ينقل لك المتنُ الفكرةَ المركبةَ العميقةَ في كُليمات متوالفات رشيقات معدودات، كما يقول أبو عثمان الجاحظ: (وأحسن الكلام ما كان قليله يُغنيك عن كثيره، ومعناه عن ظاهر لفظه)؛ مع توخي المتون لتحقيق القاعدة واحتواء الاستثناء؛ باستقراء أمين وتحوط رزين، كما يقول سيبويه في باب التقديم: (كأنهم إنّما يُقدِّمون الذي بيانُه أهمُّ لهم، وهم ببيانه أعنى، وإن كانا جميعا يَهُمّانِهم ويَعنِيانهم)، فنلاحظ أنه قد توسل بـ «كأنما»، لا لكونه يشك في تقرير هذه القاعدة، وإنما ليعبر عنها بقدر معتبر من الاحتياط، وهو نوع من «الجزم المتحوط».
هذا، وإنه لمن الجلي أن صبغة القرآن التوصيفية ليست محصورة ولا متحكرة للسلف القدماء في تراثنا العربي الإسلامي الذهبي، إذ هي منجم لا ينفد للمحدثين الذين يقرأون الكتاب العزيز ويتفهمونه ويتذوقونه وينصبغون به، ولك أن تقرأ على سبيل التعلم والتذوق والتمرس في التحرير والتنوير للعلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله، وترى كيف يفتنُّ في التوصيف المتقن، ومن ذلك قوله حينما كان يوصف سمات القصص القرآني، حيث ذكر أن من بينها: (طي ما يقتضيه الكلامُ الوارد).
لعل في الإشارات السابقة ملمحاً من ملامح البناء القرآني للذهنية العلمية؛ بمنهجيتها ولغتها وأسلوبها، فالقرآن الكريم يمثل: المنعطف الديني واللغوي والمنهجي والأخلاقي والتشريعي والإنساني والتاريخي والسردي الأضخم في الوجود. هذا، وللحديث بقية بل بقايا، بعون من الله تعالى. والله أعلم وأحكم.
** **
- كاتب وباحث سعودي