د. محمد بن إبراهيم الملحم
اللغة هي هوية الأمة والمجتمع وهي شعار الإنسان ووسيلته لفهم انتمائه، وهي جزء مهم من مكونات المجتمع الأساسية التي تمثل قيَمَهُ الكبرى، بل ترتكز عليها مقومات الأمم وتغدو في كثير من الأحيان بمنزلة الدين، ولغتنا العربية، لغتنا الجميلة حباها الله نعمة كبرى أن نزل بها القرآن، واكتسبتها شعوب كثيرة وتحدثت بها ودخلت في لغاتهم عبر الزمن حتى صرت لا تستغرب حضورها في مفردات أي لغة سواء بشكل مباشر أو متحور. لغتنا الجميلة هجرنا جمالها لنتجمل بغيرها مما هو أقل منها وأدنى منزلة وأبعد عنها وأوهى منها. وجدنا الجمال في التقليد وتصنُّعِ العبارات المنمقة بزخارف الإنجليزية أو الفرنسية، بل رحنا ندرِّس أولادنا اللغة الأجنبية منذ نعومة أظافرهم ليشبوا وهم يفهمون بها ويتكلمون بها ولا يعبرون عن مشاعرهم وأفكارهم إلا بها، وإذا حدثهم أحد بالعربية «الجميلة» لم يفقهوا مقاله ولم يدركوا مآله، وفي خضم هذا الانقلاب اللغوي تموج براكبيه أمواج التغريب والذوبان في شخصية أهل تلك اللغة «غير الجميلة» فيكتسب أبناؤنا هؤلاء عاداتهم ويتبنون تقاليدهم ويحبون هواياتهم ويطربون لفنهم، بل يحنون لبلادهم.
اللغة ليست مجرد كلام كما يظن كثيرون، بل هي حالة اندماج عاطفي وتمازج ثقافي وتذويب يتسلل إلى شخصية مكتسب اللغة اليافع ليضعه في غير مكانه الذي كان يجب أن يتسنمه ليبني مجتمعه بناء إنسانيا قبل أن يكون بناء ماديا تقنيا، إن مبتكرات العالم الجديد من المكائن التقليدية إلى الذكاء الاصطناعي يمكن أن يشغلها غير إنسان البلد نفسه لكنما قيم المجتمع وآدابه وفنونه وعاداته وحضارته وثقافته لا يمكن أن يصنعها ويحافظ عليها وينميها ويطورها إلا إنسان البلد ذاته، وهو ما يتعذر تحقيقه في ظل هجرة قصدية عن اللغة الجميلة، التي هي أداة صناعة كل المكتسبات التي أشرت إليها.
معاناة اللغة العربية لم تتوقف منذ أيام شوقي رحمه الله بل ازدادت حدتها وتضخمت أزمتها يوما بعد يوم وسنة بعد سنة، ولا يلوح في الأفق أمل نستلهم من سناه مستقبلا أفضل، ولا يعود الأمر إلى صعوبة اللغة العربية نحوا وصرفا وإعرابا وإملاء وإنما في الغربة التي فرضتها عليها حالة الانهزامية التي قررها ابن خلدون في مقدمته بأن المغلوب ينبهر بالغالب فيذهب كل مذهب في تقليده التقليد الأعمى كما فعلنا في شأن لغتنا الجميلة التي كسرنا كبرياء جمالها الطبيعي الفطري الرائع وذهبنا نغازل لقيطة ساقطة لا وسامة فيها ولا لطافة، وإنما رفعها أهلها وجملوها بثياب مزركشة فغرتنا أناقتها وسلبنا بريقها.
أسبوعنا هذا شهدنا فيه يوم اللغة العربية واحتفلنا قليلا وقلنا ما قلنا ورفعنا فيه من شأن لغتنا وذكّرنا أنفسنا بأبيات شوقي وأمثاله ممن نعوا اللغة أو امتدحوها، ولكن ذلكم رهن يوم واحد يمر بسلام ونعود إلى غينا في هجرها وقلة تعلمنا لها وإتقاننا لمتطلباتها الأولية فننصب الفاعل ونرفع المفعول ونخلط بين فعل كان وأخواتها وإنّ وأخواتها (بل لا نعرف ما هن أخوات كل منهن بالكامل) كما نخطئ كثيرا في إملائنا خاصة في الهمزات ونكتب التاء مفتوحة حيث كان يجب أن تكون مربوطة، وهكذا نقع في أخطاء تعيب طالب المرحلة الابتدائية ونحن أساتذة جامعات أو معلمين في المرحلة الثانوية، ولا نكلف أنفسنا تخصيص يومين أو ثلاثة لمراجعة مطالب اللغة التأسيسية التي يخجلنا أن نقع فيها بين الناس... مشكلتنا إذن أننا نحتفل بلغتنا الجميلة فقط وليس أكثر من ذلك.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً