رضا إبراهيم
من المرجح أن الكوميديا، تعود بدايتها التاريخية إلي عصر الإغريق منذ آلاف السنين، وكانت تعرف وقتها بـ (الملهاة)، وأما في أوروبا وفي القرون الوسطى وفي بريطانيا على وجه الخصوص، فقد اختلط التقليد المتبع بالفصل الإضافي أثناء الأداء بالمسرحيات الكوميدية الكلاسيكية، فعلى يد الشاعر والكاتب الإنجليزي الشهير وليام شكسبير (1554 - 1616م) وفي عهد الملكة اليزابيث الأولى (1533 - 1613م) بلغت المسرحيات الكوميدية الرومانسية أعلى مراتبها، وأما في العصر العباسي فقد ازدهرت الحياة الأدبية والفنية والترف، كما انتشرت مجالس الأنس واللهو، ما دفع إلى تعرض كثير من علماء النفس والاجتماع إلى محاولة تفسير الكوميديا. ولقد اختلط مفهوم الكوميديا عند الكثيرين، وساد اعتقاد بأن الكوميديا من لوازم التسلية عبر الإضحاك وأي طريقة يمكن بلوغها، وسرعان ما تغلغل ذلك الاعتقاد وانتشر بين كافة الطوائف، مثل العاملين بفن المسرح ومدى تيقنهم بأن نجاحهم في أدائهم المسرحي، يقاس بكمية الضحكات التي تثار لدى المشاهدين.
ومنهم من طالب صراحة عبر صفحات المطبوعات المتخصصة أوالمجلات، بتفصيل القول في هذا النوع من الكوميديا، بعد ما ظن لفيف من المتابعين والنقَّاد انطباقه على كوميديا الموقف القائم على الشخصية، ولعدم احتياجه للتمييز بينه وبين أي نوع آخر من الكوميديا، كما عملت الكوميديا أيضاً بدأب على السخرية من كافة المظاهر الاجتماعية والبشرية، ما أدى بها إلى الاقتران بإثارة الضحكات على كل تلك المظاهرغير المستحبة، سواءً في الطباع أوالسلوك أوفي العلاقات التي تحكم البناء المجتمعي، ولعل تلازمها مع السخرية من العيوب الواضحة، بأن أدى بها إلى دفع الكثير نحو الاعتقاد باختصاص الكوميديا بما هو ظاهر فقط، بينما التراجيديا كانت تقوم بالعكس، لتناولها ما هو باطن أي (الجوهر) لكن ظهر فيما بعد أن ذلك الرأي بعيد كل البُعد عن أرض الواقع.
لأن الكوميديا هي من الظواهر المتضمنة السخرية من كل الأمور المؤدية لهذه الظواهر، وهي بواطن الشخصية، وكل ما يكمن في داخل النفس البشرية من تناقضات لا حصر لها، ويمكن التفريق بين نوعين من أنواع الكوميديا، كانا لهما السيادة عبر مر التاريخ، حيث تفاوتت قيمتهما الفنية عبر تفاوت تركيزهما على الظاهر والباطن، أولهما الكوميديا التي تتناول صور البناء أي التراكيب الاجتماعية، بعد أن انقضى عهدها، وظهر أوجه القصور بها وازدياد نقائصها لتصبح مجالاً لسخرية أصحاب الرأي والتنوير، ولما اقتضته ألوان السلوك البشري بعد زوال قبولها ولما تفترضه من أفكار عتيقة جداً، مثل أسلوب حياة وسلوك الطبقة الارستقراطية، التي عفا عليها الزمن، أو أساليب العمل بالدواوين الحكومية، وما اشتملت عليه من مفارقات، دخل في نطاقها علاقة الرؤساء بالمرؤوسين، وما أفرزته من دعاوى مزيفة هادفة إلى اكتساب الاحترام، للوصول إلى تحقيق الأهداف.
وعن النوع الأخير من الكوميديا، فقد قام بالتركيز على نقائض البشر التي تتولد منها، باعتبارها نتيجة طبيعة لتلك التراكيب الاجتماعية المسببة لها بشكل صادق وحقيقي، مثل الجاهل الصرف مدعي العلم والثقافة، وأيضاً شخصية المرابي مدعي التقوى، وكذلك الأب الثري البخيل أو الابنة الخادعة له، أو العجوز الهائم عشقاً نحو فتاة أصغر من أحفاده.. وهكذا.
وطالما حلل علم النفس كثيرا من الأشياء، ملتزماً في تحليلاته بالرصانة والمسؤولية والدقة العلمية، وفيما يخص الكوميديا فكان لها نصيب وافر من تحليل العلماء والاجتماعيين، فقام كثير من علماء النفس بأبحاث متعددة، حول إيجاد الدوافع أو المبررات، التي تؤدي بكثير من البشر إلى الضحك أو الابتسام، كما جاء تأكيد كثير من خبراء الكوميديا كالمخرج والمنتج الأمريكي ماك سينيت (1880 - 1960م) بحديثه عن الكوميديا قائلاً: (أساس النكتة هو المساس بكرامة الإنسان).
وتوضح المقارنات مع نوعيات أخرى حية، مثل (القردة) على وجه الخصوص، أن الضحك والابتسام لم يكونا درجتين مختلفتين من نفس الشيء، لكنهما كانا ظاهرتين مشتقتين من المسارات التطورية المختلفة والمتعارضة تقريباً، لأن الابتسام بدا طبيعياً أنه ارتقى من ظاهرة المط العصبي الخضوعي، أي الخانع لكلا الشفتين فوق الأسنان، باعتباره من تعبيرات الأوجه. فعلي سبيل المثال وجود الابتسام لدي (قردة الشمبانزي) يدل على محاولة منه ليسترضي قردا آخر مسيطرا اجتماعياً، عندها تطبق الأسنان على بعضها البعض، ما يجعلها غير مستعدة أبداً للعض، وينطبق نفس الأمر بالنسبة لبني البشر، حيث يُعد الابتسام طريقة كبرى توصل من خلالها مشاعر الإذعان، والافتقار للقدرة على إلحاق الأذى، باعتبارها طريقة يمكن أن يلجأ إليها علماء النفس بشكل معين، لتوضيح السبب الواقف وراء ظهور كثير من النساء وهن أكثر ابتساما من الرجال.
إذ إن تحليل صور فوتوغرافية كثيرة، سواءً من واقع الصحف اليومية أو المجلات أوعبر التلفاز، أوضحت أن الرجال العاملين بالسياسة أو أصحاب الأعمال والشركات وذوي المال، يكونون متمتعين دوماً بوجوه حادة متسمة بالصرامة، وعلى العكس تكون النساء حتى في أصعب الظروف يظهرن دوماً مبتسمات لاسترضاء الآخرين.
وهناك العديد من الأنماط شكلت مفهوم الكوميديا، كالهجاء أو الدراما الهجائية تقوم بمهاجمة العادات والأخلاقيات والأفكار والمؤسسات الاجتماعية، بطريقة تتميز بالطرافة وخفة الظل والسخرية، أوالتهكم في بعض الأحيان،كما وجد (الهزل) وفيه يجري خلط الهزل بالحياة، عبر إحداث مواقف عبثية وشخصيات مبالغ فيها لأبعد حد، وعلى عكس التراجيديا التي تثير أقوى الانفعالات وأكثرها عمقاً، مثل توقع الشر والشعور بالكرب تارةً، أو الإحساس بالألم المبرح والرعب تارةً أخرى.
في حين نجد أن الكوميديا ركزت على اللهو والمرح أو التشوش والارتباك، وبينما عالجت الكوميديا الأحداث الكئيبة والمأساوية مثل القسوة والموت، نجد أنها على الجانب الآخر،عالجت أحداث الحياة السعيدة، مثل الزواج والحب الرومانسي والانتصار، باستخدام الحيلة على الآخرين، أو الإذلال الذي يلحق بنوعية الأشرار ضيقي الأفق.
وفي التراجيديا يجري رفع هامة البشر، والتأكيد على ما للشجاعة والالتزام من أهمية عند مواجهة حدوث الخلافات أو مواجهة الصراعات التي يصعب حلها أو حتى تجاوزها، لكن الأمر يختلف تماماً بالنسبة إلى الكوميديا في أحيان كثيرة وعلى نمط غير معهود، عبر الاستخفاف بالشخص والإشارة لمدى أنانيته وضعفه واستكانته وغبائه الشديد.
وعن العالم النفسي الشهير سيجموند فرويد (1856 - 1939م) فقد ميز بين نوعين من النكات أولاهما حسن النية لا يؤذي، وآخرهما نوع له هدف وغاية واتجاه محدد يجب الوصول إليه، كما أن فرويد وضع فرقاً بين الهدم والتعريض والتهشيم والتعرية، فعن النكات الهدَّامة فهي تتدرج تحت السخرية ونشر الفضائح والهجاء الساخر، بينما النكات الفاضحة تتدرج تحت ألفاظ مثل الفجور أوالفحش أو القول البذيء، وكل ذلك من التصنيفات تُعد صحيحاً من النواحي المنطقية.
وفي حديثه عن دون كيخوته وبنهاية كتابه الموسوم بـ (الإحساس التراجيدي بالحياة) الصادر عام 1912م أنهى الكاتب الإسباني الشهير ميجويل دي انامونو (1864 – 1936م) تأكيده على أن دون كيخوته باعتباره إنسانا فانيا، يدرك عند موته طبيعة سلوكه الكوميدي، فيذرف الدمع على ما فرط منه من آثام، لكن كيخوته بعد أن يدرك سلوكه الكوميدي يفرض نفسه على هذا السلوك، فينتصر عليه ويتجاوزه في زهو دون التنصل منه، وكيخوته ينصت إلى ضحكه هو، ويسمع الضحك المقدس.
ولأنه ليس من المتشائمين فيعتقد في الحياة الخالدة، ولا بد له أن يصارع التزمت العلمي المعاصر الذي يشبه ممارسات محاكم التفتيش!، ويناضل ضد النزعة العقلانية المورثة من القرن الثامن عشر، ولا بد للعالم أن يكون كما يريد دون كيخوته له أن يكون، ولا بد أن تكون النُزُل الصغيرة قلاعاً شامخة، يصارعها ويُهزم أمامها في الظاهر.
ولكنه واثق من الفوز عليها بأن يجعل من نفسه أضحوكة، وسوف ينتصر لقدرته على السخرية من نفسه واتخاذها موضوعاً لضحكه، كما أكد اونامونو على أن الكوميديا لها رؤيتها النافذة الجدية ولها أيضا مضامين بعيدة، سواءً كان ذلك في خط متلازم ومشترك مع التراجيديا، وضمن نطاق حدودها، أو أنها مستقلة بنفسها عن التراجيديا.
وقد ذهب نفر من النقاد مثل الناقد الأمريكي ناتان سكوت (1915 – 2006م) إلى أبعد من كل هذا، وتحدث بعضهم عن الاتجاه الديني للكوميديا بقوله (هكذا الكوميديا، إنها تؤدي بنا إلى ذلك النوع من الحقيقة الذي يطلق عليه أولداس هكسلي اسم «الحقيقة الكلية» باعتباره نهجاً من أصعب ما يطلب إلى الخيال الحديث أن ينهجه)، ولعل هذا يمثل أكبر الجوانب لما يعنيه الكاتب الإنجليزي كريستوفر فراي (1907 - 2006م) عند قوله (إن الكوميديا مهرب ليس من الحقيقة، ولكن من اليأس، أي أنها مهرب يأتي في اللحظة الأخيرة، والمؤدي إلى الإيمان).