د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
ها أنا أشلاء ممزقة في قعر سلة نفايات ضخمة. ألقاني صاحبي في حالة من اليأس والإحباط، ومضى. لا أعلم؛ في الغالب إلى بيته حيث يقبع مثل حيوان يسكنه الخوف. أدركتُ طبيعته أثناء الأيام التي رافقته فيها قبل حادثة التمزيق.
أخذني صاحبي من مكتبة عالية السقف تطل بواجهة زجاجية واسعة على شارع طويل في مدينة ما في بلد ما. كنت مندسًّا في زمرة من الظروف؛ ولمحته داخلًا يكاد يتعثر باستحياء. ما كان يريد دخول هذا الصرح. يرعبه الرخام، ترعبه الواجهة الزجاجية، ترعبه الأنوار الكاشفة. أرجح أن السيارات المزدحمة في الشارع جعلته يجنح بسيارته نحو المبنى، والوقت يداهمه. أنا أعذره؛ فالشارع على الرغم من حداثته وعرضه يغَصّ بسيارات لا أعلم من أين تأتي، ولا أعلم أيضًا أي جهة تقصد؛ ولكن الشارع يبيت كأفعى تجاهد في هضم فريستها. أمضى وقتًا غير قصير يبحث عن موضعنا. لم يسأل. وأخيرًا جاء؛ تناولني بأطراف أصابعه بحذر، ومضى بي نحو البائع. وقف، تململ شيئًا حتى فرغ البائع له، سأله: كم؟ ذكر البائع رقمًا أجفله، همَّ بأن يرجعني، التفت فإذا صفٌّ واقف؛ فلم يتردد، تحسس جيبه وأخرج محفظة حاول أن يداريها، واستخرج منها شيئًا. ولَمّا أن ذهب إلى السيارة رأيته يخرج من جيبه ورقة مطوية، ويدسها على عجل في جوفي دون تردد. بلّل الصمغ المدهون على حاشيتي؛ ولكن هي حاشية فيها حدّة بذحت -علم الله بلا قصد- طرف لسانه، تلمظ بالدم، وانقبض جبينه. أدخلني في جوف كتاب ضخم أخذ يضغط على أنفاسي، وبدأت الرسالة التي لا أعلم ما تحوي تتأوه، بدأت تتململ. كنت أحسب أنها تشكو ثقل الكتاب؛ ولكن ظهر أني مخطئ؛ إذ عاد بنا صاحبي إلى بيته، وأخرجنا من جوف الكتاب، ووضعنا في مكان عال، وما زالت تشكو، هي متململة مزعجة، تشبه أنواعًا أسمع عنها، فهـي رسالة شكوى؛ شكوى من شيء ما أو من رجل ما مقدمة إلى مسؤول ما في بلـد ما.
بتنا تلك الليلة في داره، وجاء صباح، صباح خميس؛ فالبيت صخب واضطراب، رفعنا صاحبي وهمَّ بأن يخرج؛ ولكن سمع نداءً من أعلى، نودي فألقانا، ومضى، وبعد قليل خرج على عجل، لا أعلم أي مكان يقصد، عاد بُعيد الظهر وتغّدى ثم استلقى يطلب بعض الراحة، رفع رأسه، ألقى بناظرةٍ نحوي، ثم أشاح ونام.
بعيد صلاة العصر رأيت الرجل يدخل ويتوجه نحوي فيحملني فإذا صوت يهبط من فوق، قال وعلامات الضيق تلّون صوته: لا، أنا خارج. اندسّ برفق في السيارة، بدأ يشوّه وجهي بكتابة اسم المرسل إليه والعنوان، ومضى، يبدو أن الرجل يريد أن يبعثنا بالبريد. توقف عند مبني صغير رآه مقفلًا، فانتظر قليلًا، وتطلع نحو الساعة، تحير؛ فالصلاة قد قضيت، ثم هزّ رأسه، وتمتم: آه، الخميس، ومضى بنا في شوارع المدينة، شوارع طويلة عمارات شاهقة، مبان رخامية كثيرة ولها واجهات زجاجية مثل مكتبتنا، لم أكن رأيت ذلك من قبل. وكان يسير بسيارته ويتوقف من وقت إلى آخر، وأسمع بعض الأحيان أبواق سيارات تزأر بغيظ وأسمع سيارات أُخَر تنطلق بفحيح مخيف. وبعد عناء أوقفنا عند بناء ضخم تجمّع حوله رجال ليسوا من بلدتنا، نزل صاحبي وأنزلنا، ومضى نحو الجمع وانتظر قليلًا معهم؛ لكن أقبلت الحافلة ومضى الناس، اقترب الرجل من الباب، تحسّس طيفًا أو نورًا، ثم توجه نحو الحارس، كان الحارس يملأ كرسًّا وتثاقل أن ينهض للقادم. سأل الحارس: أين الأخوان؟ تبسّم هذا من جهل الناس، وقال: اليوم الخميس، فعاد يسأل: أيقفل البريد المركزي في يوم الخميس؟ أعجزوا عن رجل واحد يستقبل في هذا اليوم؟ ولا أعلم لماذا خجل الحارس، وقال قولَ معتذر: أنا حارس. عاد الرجل منكسرًا نحو السيارة.
في يوم السبت خرج بنا إلى صرح آخر أكبر من صرح البريد المركزي يعجّ بأخلاط من الناس ويمتلئ بغرف وأروقة وأبواب مختلفة؛ لقد طوّف صاحبنا في جنبات المبنى تلفظه غرفة إلى غرفة، ويزفه رواق إلى رواق حتى وصل إلى موظف منهمك فوق تلال من أوراق. سأل الرجل:
- أين فلان؟ وسمى رجلًا.
- مسافر.
- فأين فلان؟ وسمى رجلًا آخر.
- يرأس لجنة.
صمت الرجل قليلًا، وتسمّر في موقفه، أسرع والغضب يهز كيانه نحو السلة، وها أنا أشلاء ممزقة في قعر السلة، سلة متخمة مما ألقي فيها، وقبيل خروج الرجل تهامس اثنان، قال أحدهما: عنده طرف.
**__**__**__**__**__**
- نشرت في رسالة الجامعة ولا أعرف توثيقها، وكانت قبل التحول في عطلة نهاية الأسبوع إلى الجمعة والسبت.