سهام القحطاني
«المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي،ولا ينتفع به البليد.»-ابن تيمة-
يُعتبر ابن تيمية من أشهر من ردّ على «المنطقيين» وهو وصف يقيمه مقام وصف «الفلاسفة» في كتابه «الرد على المنطقيين».
ينطلق الكتاب من فكرة أن كل معرفة صادرة عن الدين هي مطلقة التصديق و اليقين،غير قابلة للبحث وإعادة التفكير فيها؛ باعتبار أن حدود العقل أو التفكير لا تستطيع الوصول إلى المقاصد أو الغايات الكلية لإجابات الأسئلة الشائكة التي يحجزها مطلق اليقين والتصديق، ذلك الحجز الذي يقف فاصلا بين الإيمان واللإيمان.
فأول موقف له في هذا المقام هو رفضه ارتباط المنطق بحصول المعرفة، وعدم موافقته على أن «المنطق ميزان العلوم العقلية؛ لأن العلوم العقلية تُعلم بما فطر الله عليه بني آدم من أسباب الإدراك، لا تقف على ميزان وضعي لشخص معين».-الرد على المنطقيين-ابن تيمة-ص27-
ولذا يرى أن معرفة حقائق الأشياء لا تحتاج إلى المنطق؛ لأنها حاصلة بالإدراك، «وجماهير العقلاء من جميع الأمم يعرفون الحقائق من غير تعلّم منهم لوضع أرسطو، وإن زعموا أنها تفيد تعريف حقائق الأشياء، ولا تُعرف إلا بها، وكلا هذين غلط.»-المصدر السابق-
ويقف في رده على المنطقيين عند إشكالية الحدّ و القياس،وهما إشكاليتان توسع المنطقيون فيهما تعريفا وتفريعا، فاعتبروا أن الحدّ هو «ما ينال به التصور»،و»القياس ما ينال به التصديق».
يُعرّف الحدّ «بأنه قول دال على ماهية الشيء» أي العلامات التعريفية التي تُحدد هوية الأشياء، ويقول ابن سيناء «الحد هو القول الدال على ماهية الشيء؛ أي كمال وجوده الذاتي، وهو ما يتحصل له من جنسه القريب وفصله» ويقصد الخصائص التي تحدد هويته وتفرق بينه وبين بقية الهويات.
أما الغزالي فيُعرّف الحدّ «تصور كنه الشيء،-حقيقة الشيء و جوهره- و تمثل حقيقته في النفوس،لا لمجرد التمييز»، وهو ما ذهب إلية «هيدجر» فيما بعد.
يركز ابن تيمية في رده على المنطقيين على إشكالية الحدّ ومدى كماليته في تكوين يقين وصدقية معرفة المرء، فالفلاسفة يجعلون الحدّ أصلا لمعرفة المرء باعتباره حاصل تصوره،أي الحقيقة كونها مطابقة الفكر مع الواقع أو بالشيء.
لكنه يرى أن اعتماد المرء في تحصيله لليقين والصدقية هو تحقيق ارتباط الحدّ بالإدراك المكتسب كما يدعي المنطق، هو أمر أفسد الكثير من عقول الناس؛ «إذ خلطوا ما ذكره أهل المنطق في الحدود بالعلوم النبوية..بل و سائر العلوم».
فهو يرى أن إخضاع كل العلوم للحدّ بما فيها العلوم النبوية واعتبارها مؤشرات لفظية لا تحقق ماهية جوهر تلك العلوم، وبالتالي تحتاج إلى من يحقق ماهيتها عبر إدراكه المكتسب بالمنطق، والادعاء بأن حاصل ذلك الإدراك المنطقي هو» أصل المعرفة والتحقيق» هو ادعاء يصفه» بالكذب
والبهتان.»-السابق،ص20-
ولذلك يصف حدود «المنطقيين» بالباطلة؛ إذ «يجمعون بها بين المختلفين، ويفرقون بين المتماثلين»-السابق،ص23-، وإنها لا تفيد تصوير الحقائق، إنما تُفسد العقل»-السابق- ويبرر حكمه هذا بأربعة وجوه هي:
1-قولهم بأن الحد مجرد قول «الحاد ودعواه» وهنا يقصد ابن تيمية تحول حاصل الحدّ إلى رأي شخصي لا يمكن أن تستقيم به حقيقة أو تتشكل به،أوكما يصفها «قضية خبرية» لا تحمل حجة،ولا تضيف علما.
2- قولهم بأن إثبات صحة أوخطأ الحدّ ليس بالدليل إنما بالنقض؛ يرى أن هذا القول يجعل حاصل الحدّ قابلا للكذب والتصديق؛ إذا لم يقم على دليل،وهو حاصل تنتفي عنه صفة الثبات، وهذا الانتفاء يعيق المستمع في معرفة صحة ذلك الحاصل من خطئه، «ومن العجب أن هؤلاء يزعمون أن هذه طرق عقلية يقينية»-السابق،ص38-
3-يرى أن لا صحة للحدّ إلا بنجاح التطبيق، فنجاح التطبيق هو دليل التصديق «لو كان الحد مفيدا لتصور المحدود لم يحصل ذلك إلا بعد العلم بصحة الحدّ؛ فإنه دليل التصور وطرقه وكاشفه»-السابق،ص39-
4-أن حاصل الحدّ يٌقدم صفات بلا موصوف؛ يذهب القول الفلسفي أن الجوهر يُعرف بخصائصه،لا بماهيته،وهنا الأهمية للصفة لا للموصوف.
وفي رأي ابن تيمية أن هذا التقديم يُبنى على مجهول بالنسبة للسامع، ويعطي لذلك مثالا: لو قلت «الإنسان حيوان ناطق» باستظهار صفة للإنسان، فعليك أن تُعرّف للسامع ماهو الإنسان قبل أن تقدم له صفته، لتتحقق له كلية الفهم والمعرفة.
وتأمل منهج ردّ ابن تيمية على المنطقيين، يجعلنا أمام سؤال، هل كان ابن تيمية فيلسوفا في عباءة رجل الدين؟، وهذا حديث آخر.