د.عوض بن إبراهيم ابن عقل العنزي
البحثُ في معالم مذهبِ المتكلِّمين وعرٌ، يذكرني بالمرأة التي وصفت زوجها فقالت في وصفه: «لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ، علَى رَأْسِ جَبَلٍ، لا سَهْلٍ فيُرْتَقَى، ولَا سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ»، وكلَّما ذهبتُ وراءه أجدُهُ يتسعُ ويذهبُ عنّي بعيدًا.
وليس المقصودُ من ذلك التَّوقُّفَ عند هذا الحدِّ، ولكنّه وصفُ الطَّريقِ؛ ليكون الباحثُ على علمٍ بالمسالِكِ، وأنَّ كلمة أبي هلالٍ العسكريِّ عن مذهب المتكلِّمين في البلاغةِ كلمةٌ عن شيءٍ كان ظاهرًا معروفًا، وهو اليوم خفيٌّ لا يُكادُ يُشارُ إليه بشيء.
وسأتوقفُ في هذا المقالِ مع نصّين لقدامة بن جعفرٍ والشيخ عبد القاهر الجرجانيِّ توقَّفَ عندهما أحدُ الباحثين مبيِّنًا أنَّ الأول منهما مصدر من مصادر المعرفةِ البلاغيّة للأخير، ويمكن أنْ يظهرَ -عند وضع النّصين أمام بعضهما- أثرٌ من آثار المتكلِّمينَ في كلامِ الشيخ عبد القاهر يُلمَحُ من وجود ألفاظٍ تُشعرُ بذلك.
قال قدامة بن جعفر:
«الإرداف وهو أن يريد الشاعر دلالة على معنى من المعاني فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى، بل بلفظ يدل على معنى هو ردفه وتابع له، فإذا دل على التابع أبان عن المتبوع، بمنزلة قول ابن أبي ربيعة:
بعيدة مهوى القرط إما لنوفل
أبوها وإما عبد شمس وهاشم
وإنما أراد هذا الشاعر أنْ يصف طول الجيد، فلم يذكره بلفظه الخاص به، بل أتى بمعنى تابع لطول الجيد، وهو بعد مهوى القرط».
وقال عبد القاهر في الكناية:
«أنْ يريد المتكلِّمِ إثباتَ معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيومئ به إليه، ويجعله دليلًا عليه.
مثال ذلك قولهم: (هو طويل النجاد) يريدون (طويل القامة) و(كثير رماد القدر) يعنون كثير القِرَى، وفي المرأةِ أنها (نؤوم الضُّحى) والمراد أنّها مُتْرَفَةٌ مخدومةٌ لها مَنْ يكفيها أمرها».
ومما سبق يُمكنُ تسجيلُ الملحوظاتِ التالية:
- جملة قدامة (اللفظ الدال على ذلك المعنى)، وجملة عبد القاهر (لا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة).
وهنا أدخل عبد القاهر (الوضع)، وهذا تفكيرٌ مبنيٌّ على (توالي الأحداث وتعاقبها).
- جملة قدامة (بلفظ يدل على معنى هو رِدْفُهُ وتابِعٌ لَهُ فإذا دلَّ على التَّابِعِ أبان عن المتبوع)، وجملة عبد القاهر (ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيومئ به إليه، ويجعله دليلًا عليه).
وهنا أدخل عبد القاهر (الوجود) انطلاقًا من فكرة الحدوث يعقبه حدوث.
- جملة قدامة (فإذا دلَّ على التابع أبان عن المتبوع) بمعنى إذا تلفظ بلفظ يدل على معنى تابعٍ لمعنى لم يتلفظ بما يدلُّ عليه كان ذلك منه إبانةً عن المتبوع.
وجملة عبد القاهر (فيومئ به إليه، ويجعله دليلًا عليه) بمعنى فيومئ بلفظ الكناية إلى المكنيِّ عنه، ويجعلُ لفظ الكناية دليلًا على إرادته المعنى المكنيَّ عنه.
والفرق بينهما أنَّ قدامة تحدَّث عن (تتابع المعاني) وعبد القاهر تحدَّث عن (توالد المعاني) فالمعنى المولود دليل على المعنى الوالد.
وهنا تجد عند عبد القاهر فكرة (توالي الأحداث) وتتابع الوجود، أما قدامة فالمعاني منها ما هو إمام متبوع ومنها ما هو مأمومٌ تابعٌ فهما في الوجود سواء.
وهنا أصلُ إلى نتيجةٍ حول أثر مذهب المتكلِّمين في البلاغة على علم الشيخ عبد القاهر الجرجاني، وهذه النتيجة تقول: يوجد لدى عبد القاهر تفكيرٌ كلاميٌّ جعله يدخل في كلام قدامة ما لم يذكره قدامة، وربَّما لم يرده.
** **
- جامعة الحدود الشمالية