د.فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح
[النَّظرة العجلى وبادي الحكم]
العَجَلَة بالحكم من النَّظرة الأولى، الخاطفة لا تكون صائبة، وقد يقع في مثل ذلك أحياناً المحكِّم الفاحص، وهذا الاستعجال وخطف الملاحظ خطفاً من غير تمعُّنٍ ولا رويَّة، له وجهان أو دافعان؛ إمَّا لاحتقار الثَّمرة الماديَّة المرجوَّة من هذا التَّحكيم؛ لذا لا يلقي له بالاً ولا يعيره كبير اهتمام؛ بل يعدُّه تكليفاً رتيباً (روتينيّاً)، فإذا سئل من قبل المجلَّة المرسلته إليه أو استعجل الرَّدَّ خبط به خبط عجولٍ بلا دقَّة محصٍ، وإمَّا مردُّه كثرة الشُّغول عند هذا المحكِّم ممَّا يتسبب في عجلة الأحكام، وعندئذٍ تسري منه أوهام تنسرب من عدم صحَّة فهم، وقد وقع لي من ذلك شيءٌ.
من ذلك -وأحسب أنَّه سرعة حكم من عجلة نظرٍ أدَّى إلى سوء فهمٍ من المحكِّم- أنَّه قد جاءني في تحكيم بحثٍ () لي عن قول لي على ما حَكَمَ به ابن هشامٍ الأنصاريُّ في قوله: «واختلفوا في جواز مدَّ المقصور للضَّرورة فأجازه الكوفيُّون ... ومنعه البصريُّون». [أوضح المسالك (محيي الدَّين): 4/ 266]
وعقَّبتُ على حُكْمِ ابن هشامٍ هذا بقولي: ههنا سؤال وارد ومفاتشة قائمة، وهي كيف يقال: يجوز للضَّرورة؟ والضَّرورة ضرورة؛ أي: اضطرار، اللهمَّ إلَّا إن أراد بالضَّرورة هنا لغة الشِّعر. إذ الجواز يكون للاختيار لا للاضطرار، وابن هشامٍ بهذا الحكم يكون قد قعَّد للضَّرورة، والضَّرورة مخرجٌ، ولأنَّه بهذا التَّأصيل لها يقع الدَّور إذ كيف يؤصِّل لها بها.
فاستشكل المحكِّم كلامي هذا معترضاً قولي هذا ومتحيِّراً في فهمه، وأنَّه وقف متعجِّباً منه، وأنَّه حار في مكمن العلَّة أبفهمي أم بفهمه؟ وأبرم لذلك قالة السِّيرافيِّ شاهداً لقوله وهدايةً لي، وهي قوله قال أبو سعيدٍ: «اعلم أنَّ الشِّعر لمَّا كان كلاماً موزوناً... استجيز له لتقويم وزنه من زيادة ونقصان وغير ذلك ما لا يستجاز في الكلام مثله، وليس شيء من ذلك رفع منصوب ولا نصب مخفوض، ولا لفظ يكون المتكلِّم فيه لاحناً، ومتى وجد هذا في شعر كان ساقطاً مطَّرحاً ولم يدخل في ضرورة الشِّعر». [شرح كتاب سيبويه (ط المصريَّة): 2/ 95-96]
وأقول ملاطفاً اعتراضه كاشفاً عنه الحيرة والعَجَب بما يأتي:
أوَّلاً: أنَّه ذكر في اعتراضه أنَّ المتقرِّر عند النَّحويِّين أنَّ الضَّرورة هي ما يقع في الشِّعر= قلتُ: هو ما أقوله؛ فلم التَّعجُّب إذن، وانحجار الفهم؟!
ثانياً: ذكر عن الضَّرورة أنَّ فيها جائزاً وقبيحاً وممنوعاً= قلتُ: هذا قول مشكلٌ، فإذا كان جائزاً لم يكن ضرورةً، وأمَّا القبيح والممنوع فمن أجله حكم عليه بالضَّرورة، وبذلك أرجو أنَّ عجبه قد زال، وكذا حيرته.
ثالثاً: ذَكَرَ فيما ذكر أنَّه بذلك يحكم بها ولها؛ يعني الضَّرورة= قلتُ: أمَّا الحكم بها فنعم، وأمَّا الحكم لها؛ فهذا اقتياس، والضَّرورة هي لما خالف ما ينقاس، فبقول المتعجِّب النَّاقد يقع التَّناقض، أو قل التَّدافع.
رابعاً: أنَّ معنى? قول السِّيرافيِّ: «استُجيز فيه» فيه لطيفة فهمٍ، وهي أنَّ ذلك ممَّا يتجوَّزون فيه فيجتازون به القواعد، فليس هو من الجواز الَّذي هو حكم اصطلاحيٌّ، بل هو من أصل المعنى? اللغويِّ؛ لذا علَّله أنَّه لأجل إقامة الوزن، ثُمَّ ذكر ما يستجيزونه من ذلك، وأمَّا مخالفة الإعراب فلا ضرورة فيه إذ ذلك خطأ محضٌ.
خامساً: أنَّ وصف النَّحويِّين للضَّرورة بالقبح أو بالحسن ليس لأنَّ إحداهما خالفت والأخرى، لم تخالف، بل كلاهما مخالف، لكنَّ القبيحة وصفت بذلك؛ لأنَّها خالفت أصلاً معتبراً كدخول علامة اسم على فعل مثلاً، والحسنة ليست كذلك، فهي مثلاً كقطع همزة وصلٍ، ووصفهموها بالحسن لا لذاتها، بل هو لمقابلة ما وصف منها بالقبح؛ لأنَّه لا حسنَ في مخالفة القياس.
وأخيراً أرجو أنَّ الحيرة قد زالت، والتَّعجُّب قد انقشع غمامه. [متبوع]