أحمد بن عبدالله الحسين
اللغة العربية ويومها العالمي الذي يصادف 18 ديسمبر هذا العام، وفيه الذكرى الخمسون منذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لإدخال اللغة العربية عام 1973م ضمن اللغات الرسمية داخل الأمم المتحدة. شعار 2023م هو؛ اللغة العربية لغة الشعر والفنون. البرامج لهذا العام تتضمن باحثين وأكاديميين ورؤساء هيئات دولية لطرح تأثير اللغة العربية في تشكيل المعارف والفنون، والتنوع الثقافي والحوار بين الثقافات.
اللغة العربية منبر علم لا تنطفئ جذوته، وموروثها عابر للأزمان والجغرافيا والبشر. وهي ليست مُلهمة لأهلها فقط، إنما طالت المستعربين والدارسين. حتى يقول عنها المستشرق الفرنسي ماسينيون المتوفى عام 1962م إن؛ باستطاعة العرب أن يفاخروا غيرهم من الأمم بما في أيديهم من جوامع الكلم التي تحمل من سمو الفكر وأمارات الفتوة والمروءة ما لا مثيل له. وكذلك وليم مرسيه المتُوفّي عام 1956م في وصفه؛ إن العبارة العربية كالعود إذا نقرت على أحد أوتاره رنت لديك جميع الأوتار وخفقت، ثم تحرك اللغة في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكباً من العواطف والصور. وبالمثل «كازانوفا « المتُوفّي 1926م في فقه اللغة العربية له وفير كلام، ويُعتبر الرائد الأول الذي وضع أساس الدراسات العربية في الجامعات الأوروبية. وتابع مثلهم الألماني»رايسكة» المتُوفّي عام 1774م والذي سمى نفسه «شهيد الأدب العربي»، بعد أن أوقف حياته كلها على دراسة اللغة العربية والحضارة الإسلامية. وهذا الاهتمام عند الألمان امتد إلى وقتنا الحاضر.
علم اللغة عند العرب بدأ بدلالات ألفاظ القرآن صدر الإسلام بُغية فهم النص القرآني، وكانت المشافهة والمساءلة أدوات التواصل لمباحث علم اللغة، تبعها طور التأليف الذي تمركز في البصرة في العراق وخُلِّد فيها. برز الخليل بن أحمد الفراهيدي المتُوفّي في البصرة عام 170هـ بوضع باكورة علم الصوتيات العربية في كتابه القيم «العين» وهو معجم. توالت بعده عدة معاجم مثل؛ كتاب البارع لمؤلفه القاليّ، وتهذيب اللغة للأزهري، والمحيط في اللغة لابن عباد، وهذه كانت مابين القرن الثالث والخامس هجري. ثم تنوعت المؤلفات التي تخدم علم اللغة كمثل كتاب النبات لأبي زيد الأنصاري المتوفى عام 215هـ حيث بسط فيه الأوصاف الدلالية للنباتات ومعانيها، ثم الأصمعي المتوفى عام 216هـ في كتابه خلق الإنسان وكتابه الآخر النخل والكرم.
ومن المؤلفات في دراسات الأسرار اللغوية التفصيلية برز لغويون كأمثال؛ سيبويه المتوفى عام 180هـ وكتابه في قواعد النحو. والسيوطي المتوفى عام 911هـ في كتابه المزهر علوم اللغة وأنواعها الذي تناول أصل اللغة ونشأتها، وكذلك ظاهرة الترادف أي المعنى المتعدد للفظ والتي منها مثلاً؛ لفظة العين تطلق على العين الجارحة والبئر والشيء النفيس. ولهذا مرادفات الدلالات في اللغة العربية وافرة وفيها سمو الفصاحة.
الموروث في علم اللغة الذي بلغ الاهتمام فيه والتآليف في العصور الأولى ذروتها، جذّر التوثيق وحملته المعاجم ليمتد إلى تالي الأزمان. وبهذا تربعت اللغة العربية على رقعة جغرافية واسعة منطوقة وفاعلة. ولا غرابة أن تجد الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكناني البصري أحد أساطين الأدب في العصر العباسي،المتوفى في البصرة عام 868م ان يصف لغة العرب في كتاب البيان والتبيين قال «إنّه ليس في الأرض كلام هو أمتع، ولا آنق، ولا ألذّ في الأسماع، ولا أشدّ اتّصالاً للعقول السليمة، من طول استماع حديث الأعراب العُقَلاء الفُصَحاء والعُلَماء البُلَغاء. والفصاحة صفة مهمّة عند العرب، وهي ذات وجهين: عضويّ يتمثّل في طلاقة اللسان، ووضوح النُّطق عند المتكلّم، وتواصليّ يتحقّق في البيان، والفهم بين المتكلّم والمُستمِع».
الأمريكي أولمستد المتوفى عام 1903م يقول؛ «إن البدو العرب كانوا أول من تكلم اللغة السامية على حقيقتها»، وسانده المستعرب الإنكليزي فيلبي المتوفى عام 1960م بعدما قام بدراسات مستفيضه لأحوال جزيرة العرب فيقول:»إن اللغة العربية التي يعترف الخبراء في كونها أقرب من جميع اللغات السامية إلى اللغة الأم الأصلية التي اشتقت منها جميع هذه اللغات هي على أغلب الاحتمالات أقدم لغة في العالم ما زالت حية حتى يومنا هذا».
أما تطور اللغه فهو طبيعي يضيفه ما يتعامل به الناس بينهم باختلاف لغاتهم، أو ما يتم من تفاعل بين الشعوب في تحول العصور لذا دخل المستعرب من الألفاظ على اللغة العربية. وهذا يحتاج امتداداً لا يتوقف مع الزمن للمواكبة ومحاذاة مستجدات العلوم التقنية والإنسانية تيسيراً للتعلم والتثاقف. بل مع الزمن لابد من المزاوجة بين الأصالة والتجديد إذ تم توظيف المراجع اللغوية القديمة مع ما جاء في العلم الحديث، الذي أضاف تجديداً لألفاظ ودلالات تُنهض طرائق التواصل بين أهل اللسان الواحد.
ولهذا اللغة العربية لابد لها أن تكون مفتوحة للمُستعرب من القول كما كانت من قبل تأخذ وتعطي. وتحديها هو ماثل للعصرنة وما دخل فيها لتيسير نمو المعاجم اللغوية العربية. والعرب مناط بهم العمل على زخم تفعيل لغتهم وإدراك مكتسباتها وتنافسيتها الوجودية، دونما عملقه أو خيلاء، وتعاطي هروب للأمام.