محمد رضا نصر الله
كان أبي يأخذني إلى الدور الرابع من بيتنا القديم.. وهناك تنتصف لحظة لها جناحان! فعلى يساري تتوهج غابة النخل ريشًا أخضر. وعلى اليمين تنبسط زرقة الخليج، لازوردية تتماوج في عيني الطفلة، بتشكيلات مثيرة من أجنحة النوارس البيضاء، وشباك الصيادين، وحوريات البحر.
استكمالًا لبناء الصورة الأسطورية في مخيلتي عن عالم البحر، بلآلئه وأسماكه وجنياته، بسفنه وصياديه وغواصيه، طفقت أرسم السؤال ملحاحًا في صدر أبي.. عن البحرين.. فيشير بيده الساطعة.. إنها هناك. ويضيف وهو يحملني على كتفه: بإمكانك أن تراها، بمجرد أن تتبع خط سير السفن الشراعية، المحملة بالتمر والموز واللوز والليمون، وهي تمخر عباب البحر إلى المنامة.
سألت أبي ذات مرة: ألم تذهب إلى البحرين؟ فأجابني: بلى.. لقد زرتها بقصد العلاج في مستشفى الإرسالية الأمريكي!! وقد قضى فيها شهرًا أو يزيد، كان خلالها ممتلئًا بصور مدهشة غريبة عن سياقه الاجتماعي. فهناك وجد الناس يرتدون أزياء (عولمية) بهيئة لم يألفها، ويتكلمون بألسن مختلفة، حتى أن الاقتراض اللغوي من الهندية والفارسية والإنجليزية، كاد يؤثر على فصاحة أبنائها العربية. الطرق هناك نظيفة، والأسواق منظمة، والوجوه تفيض بالحيوية والتحدي، فالناس معظمهم متعلمون، أصحاب هوايات، ورياضات، يقرأون ويلعبون، يمتطون الحمير، و(حصان إبليس)، ويركبون السيارات! يجدون في أوقات الجد، ويهزلون في أوقات الهزل... يومًا بعد يوم، وسنةً وراء سنة، كان اسم البحرين يكبر في رأسي، ويمتلئ بها وجداني، وأنا أنصت إلى الحكايا عنها، في البيت والسوق والمقهى، حتى استجد بعد ذلك، عامل له الأثر الحاسم في بناء الصورة وتفكيك المخيلة.
إنه الصوت الآتي عبر المذياع، وهو يحمل فخامة الأداء في صوت إبراهيم كانو وأشعار إبراهيم العريّض، وآراء حسن جواد الجشي، وأحاديث محمد جابر الأنصاري، وبرنامج علوي الهاشمي وبهية الجشي الأدبي.
إذن.. فالبحرين على عتبة الاستقلال الوطني
وهنا قررت اختراق هذا العالم المتخيل، وكنت أتخطى السابعة عشر.. راكبًا السفينة من ميناء الخبر، في منتصف نهار قائض، لأقضي ساعات أربع بين أقفاص الدجاج، وقلات التمر، مع مجموعة من المسافرين، بينهم فلاحون عجزة من القطيف، وشباب من عمال شركة أرامكو، وفد هؤلاء وغيرهم على البحرين لقضاء حاجاتهم أو إجازاتهم الصيفية أو الأسبوعية، بين أقاربهم أو معارفهم في هذه الجزيرة السحرية العجيبة. غير أن الرحلة مع بكارتها لم تكن رومانسية! فحين وصلنا ميناء المنامة، لم تأخذنا السفن الشراعية الصغيرة إلى (الفرضة) كما فعل الزمان قبل قرن بأمين الريحاني الشاعر والأديب والرحالة الذي فتن بالشيخ المستنير إبراهيم بن محمد آل خليفة، الذي فصل فيه القول دكتور الأنصاري.. وكذلك المفكر الألمعي دكتور نادر كاظم في كتابيهما عن هذه الشخصية المتنورة.. لكني سنة 1971م لم أجد تلك النجوم الرقراقة المنعكسة على صفحة البحر، التي وصفها في كتابه (ملوك العرب) ولم أر الحمير والأتن التي كانت تملأ الطرق والأسواق.
لقد وجدتني وكأنني في القطيف! فسوق السمك في المنامة هو سوق السمك في حي الشريعة، وفلاحو جد حفص هم فلاحو القديح، ونخل سترة هو نخل أم الحمام، وعين عذاري هي عين داروش، وعمال المحرق هم عمال الدمام، وشارع الشيخ عبدالله هو سوق الصكة.
.. إذن ما الذي استلفت نظري. في ذلك الصيف المبهر. إنه سينما أوال، ونادي العروبة، والمكتبات، وأسرة الأدباء والكتاب، وتلك الكوكبة المشرقة بالحيوية والإبداع. علوي الهاشمي، وعلي عبدالله خليفة، وقاسم حداد، ومحمد عبدالملك، ومحمد الماجد.
كان هؤلاء هم شعراء وقصاصو الموجة الجديدة، يحتلون موقعًا جيليًا واقعيًا حداثيًا، أشب من جيل حسن جواد الجشي، ومحمد جابر الأنصاري وعبدالله الشيخ جعفر القديحي وغازي القصيبي وعبدالرحمن رفيع.. بينما كان إبراهيم العريّض يحتل موقعه الرومانسي والانطباعي مجددًا وحده في مجال الشعر والدراما والنقد.
هكذا وجدته وأنا أتردد عليه ضحى كل يوم في متجر أحد أصدقائه في شارع الشيخ عبدالله، محاطًا بهالة أسطورية.
لم لا؟ّ!
وقد تخطت سمعته ناقدًا أدبيًا ومترجمًا لرباعيات الخيام، حدود البحرين إلى آفاق العالم العربي.. لكن من افتقدته هو محمد جابر الأنصاري، وكان محاطًا بهالة رئاسته لدائرة الإعلام (أي وزيرها) قبل استقلال البحرين، وكذلك المعارك الأدبية التي خاضها في الصحافة، بعد عودته من الدراسة الجامعية في بيروت، بعد ابتعاثه لدراسة اللغة العربية والأدب في جامعتها الأمريكية، حيث جرت معركة أدبية بين محمد جابر الأنصاري والصحافي محمود المردي، هدا الذي زرته في مكتب جريدته (الأضواء) وقد انتصر الأنصاري للشعراء والقاصين الجدد من الشباب، الذين وصفهم المردي بـ(المتأدبين)! رادًا عليه الأنصاري، مؤكدًا أنهم أدباء وشعراء لهم تجاربهم المميزة، داعيًا المردي إلى أن يركز على الشئون الصحافية الخاصة بارتفاع أسعار البصل والطماطم ومشاكل البلدية، ويترك الشئون الأدبية للمختصين!.
وقد أوضح علي الشروقي أنّ سعة الصدر التي تمتع بها الأستاذ محمود المردي كانت مميزة، فقد خصص ما يقارب ربع عدد صفحات الجريدة لهؤلاء الأدباء الشباب، وأصبح أكبر داعم لهم. بل إنه ملك من الشجاعة الأدبية بأنه كان ينشر المقالات التي كان فيها نقد شديد له شخصيًا، ومن ضمنها المقال شديد اللهجة الذي كتبه الأنصاري، ينشرها كاملة بسعة صدر، دون أن يقتطع كلمة واحدة منها.
أما المعركة الأخرى فكانت بين الشاعر غازي القصيبي وأسرة الأدباء والكتاب. الذي ألغى عضويته فيها.. وكان مثار هذه المعركة يتركز حول مفهوم الالتزام الذي روّجت له الأسرة. واحتج القصيبي في رده على القاص محمد الماجد، على المعيارية السياسية التي تزن بها الأسرة الأدب، إذ إنها تهتم بأن يكون الأدب محملًا بالقضايا الوطنية والعربية والإنسانية، وإلا يصبح الأدب ترفًا. وكان غازي يكتب المقالات الساخرة الناقدة للشعارات الأيديولوجية، مذيّلة باسم «ابن عبد ربه». ثمّ أخذ يكتب مقالات أقل سخرية وحِدّة باسمه، ولم تعجب مثل هذه المقالات الساخرة مؤسسي الأسرة، وعلى رأسهم الدكتور محمد جابر الأنصاري، فشنّوا هجومًا صحافيًا ناريًا على غازي القصيبي، معتبرين أنّ شعره مفتقد للحرارة -ربما بسبب وضعه الطبقي- تضامنوا للرد على كتابته الساخرة.. هذا ما لمسته من حواري مع الشاعر علي عبدالله خليفة، الذي التقيته في تلك الزيارة، بدائرة الموانئ مرتديًا بذلته البحرية البيضاء.. وحين سألته عن قاسم حداد، أخبرني ممتعضًا بأنه دخل في الغيبة الصغرى!
والعجيب أنه بعد سنوات طويلة من هذه المساجلة بين دكتور محمد جابر الأنصاري وصديقه دكتور غازي القصيبي، أجرت مجلة (العربي) الكويتية سجالًا بين الصديقين، اللذين تعمقت علاقتهما الشخصية والفكرية كلما تقادم الزمن بهما، أن استمر الحوار بينهما حول (الالتزام)!
فهذا هو الأنصاري يستذكر ماضي معركته معه! فيقول لغازي:
في زمن الشباب الشعري والنقدي -عندما اختلفنا أنت وأنا حول مفهوم الالتزام وأهمية الشعر القصوى في حياة الشاعر- كنت تصر على أن الشعر جانب من جوانب حياتك، وأنك لا ترى أن الشاعر يتجرد كليًا للشعر أو يعتبره همه الأول، وأنه يمكن أن يكون أشياء أخرى في الحياة بالإضافة لكونه شاعرًا.
وخلال مسيرتك في الحياة أثبت هذا الرأي بالفعل، فكنت إداريًا وأكاديميًا ووزيرًا وسفيرًا بالإضافة إلى كونك شاعرًا، ولكن تجربتك أثبتت أن الشاعر الذي جعلته يتعايش فيك مع الإداري والأكاديمي... إلخ، هو الذي كانت له الكلمة الفاصلة عندما برزت مسألة الأولويات في تقرير الهواية والمسيرة الحياتية، وأن الكلمة الشعرية كانت هي الكلمة. وأن الوجود الشعري كان هو الوجود. وأعني بالشعر هنا معناه الكياني كالتزام حياتي وكصفاء وقيمة وليس كفنٍّ محض. كيف تتفاعل مع زعمي هذا؟!.
ويجيبه غازي:
لا يبدو أن نقاشنا المزمن حول «الالتزام»، ذلك الذي بدأ قبل ربع قرن سينتهي أبدًا، رغم محاولاتك ومحاولاتي الدائمة للتقريب بين الموقفين. مشكلتي مع «الالتزام»، أني أراه صفة خارجة عن الشاعر، مسقطة عليه من طرف آخر (هو غالباً الناقد). عندما نقول إن شاعرًا ما شاعر «ملتزم» فنحن نعني أنه «ملتزم» بما نعتبره نحن قِيمًا ومُثُلًا يجب الالتزام بها. لا أتصور أن ناقدًا يمينيًا سيمجد «ملتزم» شاعر (يساري) والأرجح أنه سيعتبره تخليّا عن الالتزام الحقيق أو أن ناقداً يساريًا سيمجد التزام شاعر (يميني) والأغلب أن يسمى «الالتزم» رجعية، أو بورجوازية. (الالتزام) منحة من النقاد الملتزمين -أو القراء الملتزمين- لذلك الإنتاج الذي يتواءم مع مواقفهم السياسية والدينية والفكرية.
* *
عام 1976 ميلادية جاء الأنصاري -ربما لأول مرة- إلى الرياض بدعوة من الرئاسة العامة لرعاية الشباب.. وفوجئت بمدير علاقاتها العامة علي آل علي يدعوني إلى عشاء خاص في بيته تكريمًا لزائرهم، الذي بدأ ينشر مقالاته الأدبية والثقافية فوق صفحات مجلة (الدوحة) القطرية في بداية انطلاقتها برئاسة الأديب الأكاديمي السوداني محمد إبراهيم الشوش.. ومنذ اللحظات الأولى حلت كيمياء قبول متبادل بيني وبين الأنصاري، الذي كان وقتها يعمل على إنهاء أطروحته للدكتوراه في النزعة التوفيقية في الفكر العربي المعاصر.. التي قدمها للمناقشة سنة 1979م.
بعدها بسنوات أربع سنة 1983م دعوته للمشاركة في كتابة مقال أسبوعي في إصدار جريدة (الرياض الأسبوعي) تناول فيها عديدًا من القضايا الأدبية والفكرية والسياسية.. وكان من أوائل الكتاب العرب، الذين دعوا إلى إعادة علاقة المملكة مع الاتحاد السوفييتي قبل انهياره.
وأتذكر من مقالاته، نقده الشديد للناقد الأدبي المصري دكتور لويس عوض، بعد إصدار كتابه المتحامل ضد جمال الدين الأفغاني، وقد نشرها مقالات مسلسلة في مجلة التضامن الصادرة في لندن وقتذاك، إذ ذهب دكتور الأنصاري إلى أن لويس عوض ومن هم على شاكلته لا يريدون بهذه المقالات رأس الأفغاني.. بل يريدون الرؤوس الكبيرة في نهضتنا العربية كلها، من الإمام محمد عبده إلى عبدالرحمن الكواكبي إلى مصطفى عبدالرازق إلى ساطع الحصري.. بل يريدون رأس الفكرة العربية والإسلامية كلها، وقد صورت مقالات لويس عوض (جمال الدين الأفغاني) بأنه رجل غامض مشوه الهوية والانتماء، مزعزع العقيدة مشتت الفكر ومزدوج السلوك، مشيرًا إلى إن فكر النهضة العربية، الذي بدأ بعد غزو نابليون مصر، مؤسس على سلوك خاطئ وفكر مرتبك).. مفيدًا -أي دكتور الأنصاري- من مقالات رجاء النقاش، الذي زامل الأنصاري في الكتابة الشهرية بمجلة الدوحة، مفندًا أطروحة لويس عوض، بمقالاته التي جمعها في كتابه (الانعزاليون في مصر) آخذًا على عوض انتصاره ليعقوب صنوع - اليهودي الديانة - الذي تعامل مع الغزو الفرنسي، مُسّهلا للفرنسيين تنفيذ خططهم الثقافية في مصر والمشرق العربي، وقد تحمس صنوع لظاهرة كمال أتاتورك في تركيا، بعلمنة المجتمع الإسلامي التركي.
هذا ما تضمنه كتاب دكتور الأنصاري (رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية) الذي أحسبه - بسبب معالجاته الصحفية - من أضعف مؤلفاته، لافتقاره إلى المنهج العلمي الذي اتسمت به معالجاته المتميزة في أطروحته الأكاديمية (الفكر العربي وصراع الأضداد) وما تفرع عنها من كتب أخرى (تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي) و(تكوين العرب السياسي) و(التأزم السياسي عند العرب وموقف الإسلام منه) وقد وضع الأنصاري أصابع بحثه في جروح غائرة في جسد مسيرة الفكر التاريخي والاجتماعي والسياسي، منذ العصر الإسلامي إلى العصر الحديث.
فهل لكتابات لويس عوض، وما سبقها من معالجة بعض الكتاب العلمانيين العرب، التي اعتبرها الأنصاري انتقادًا سلبيًا.. الدافع البحثي الناقد المتواصل لدراسة الأسس الفكرية للنهضة العربية، بعدما تبناها الأفغاني وتلميذه (العاق!) محمد عبده، وهو انتقاد متأت من (علمانية مسيحية) كما يعبر الأنصاري.. كان أنموذجها الصارخ لويس عوض، في كتاباته المتحاملة، بحكم جذوره الدينية، وصلاته الفكرية بالغرب، وهو ما تجلى في دعوته المبكرة إلى الكتابة باللهجة العامية، التي بدأها في كتابه (مذكرات طالب بعثة) الصادر سنة 1942م، ولم تنته بكتابه (مقدمة في فقه اللغة العربية) الصادر سنة 1980م.. متأثرًا بفكر كرومر الذي شغل منصب المراقب العام البريطاني في مصر خلال عام 1879م، فوقتذاك جرى الصراع بين توفيقية محمد عبده وتغريبية كرومر، إذ يذهب دكتور الأنصاري إلى أن قوة التحدي الأوروبي -الحضاري والسياسي- أعظم من أن تصمد لها توفيقية محمد عبده، التي حاولت - بعد أن حاولت لمس التنافر والعداء بين المُستعمِر والمُستعمَر- المواءمة بين العرب والغرب في صيغة تصالحية واحدة، كما جاء في أحد كتبه المعنون بـ(الإسلام والنصرانية).
هذا وبعد تتبع الأنصاري الدقيق لمجمل خطابات مفكري وسياسي عصر النهضة العربية، منذ بداياته إلى نهاياته في العقود الأخيرة من القرن العشرين، طفق يواجه خطاب كرومر حول تدهور الإسلام المتواصل، وعبثية تبني محاولات مفكري المشرق العربي في مصر والشام والعراق إصلاحات تحديثية، باعتبار التدهور -حسب كرومر- كامن في جوهر الإسلام الاجتماعي.
يبدو أن الأنصاري وجد في أطروحة العلامة ابن خلدون في (مقدمته) المتمركزة حول العصبية العربية والدعوة الدينية، مخرجًا مجيبا على اتهام كرمر، في سياق معالجة الأزمات الفكرية والاجتماعية والسياسية العربية، المستعصية على (الحسم) في أطروحته (التوفيقية) متأثرًا بعالم الاجتماع العراقي دكتور علي الوردي، الذي ارتاد حقل الدراسات الخلدونية، بعد أطروحة دكتور طه حسين في جامعة مونبلييه الفرنسية حول (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية) سنة 1917م بينما نال الوردي أطروحة الدكتوراه من جامعة تكساس الأمريكية في (علم اجتماع المعرفة) سنة 1950م متمثلًا أطروحته بعد ذلك في كتابه (منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته) سنة 1962م معتبرًا إياه بأنه أول من حاول إنزال الفلسفة الأرسطية اليونانية من عليائها العاجي المتأمل، إلى معترك الحياة الواقعية الجدلية، ومنها انطلق الوردي في تحليل مجتمعه العراقي العشائري، برؤية تاريخية واجتماعية، باحثًا منذ سنة 1965م في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) عن مكامن القلق السياسي والصراع الاجتماعي في بلده، عبر إعادة إنتاج أطروحة ابن خلدون حول صراع (البداوة والحضارة) في أطروحته عن صراع (الصحراء والنهر) في معظم كتبه، خاصةً في كتابه الضخم (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث).
* *
إن هذه الثنائية الجدلية هي ما شجعت دكتور الأنصاري على تتبع النزعة التوفيقية في الفكر العربي المعاصر، في أطروحته اللافتة (الفكر العربي وصراع الأضداد) متسائلًا -كما جاء في عنوانها (كيف احتوت التوفيقية الصراع المحظور بين الأصولية والعلمانية والحسم المؤجل بين الإسلام والغرب).. مشخصًا حالة اللاحسم في الحياة العربية والاحتواء التوفيقي للجداليات المحظورة.
وقتذاك كان المفكر المغربي دكتور محمد عابد الجابري، منذ صدور كتابه (الخطاب العربي المعاصر) سنة 1982م يدشن مشروعه الفكري في (نقد العقل العربي) بتفكيك سلطة النص المحافظ، ناقدًا هيمنة التراث الفكري على العقل العربي طوال قرون، متسببًا ذلك في إخضاع الجابري التراث العربي الإسلامي إلى جهازه المفاهيمي، وهو يدعو للتحرر العقلي بـ»تدوين (خطاب) عربي جديد في التداول الفكري» بما (يَجُّب) التدوين القديم بين منتصف القرن الثاني ومنتصف القرن الثالث الهجريين، متوسلًا في ذلك مناهج المفكرين الفرنسيين... (لالاند) العقلاني المجدد بمعجمه الفلسفي الموسوعي، و(ألتوسير) الذي درس القطيعة المعرفية بين ديالكتيك هيغل ومادية ماركس التاريخية، وهو ما انعكس لدى دكتور طيب تيزيني أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق في كتابه «مشروع رؤية للفكر العربي في العصر الوسيط» الصادر سنة 1971م وما تبعه من أجزاء عديدة، ثم عمق أطروحته حسين مروة في كتابه «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» سنة 1978م برؤية تحليلية تكاد لا تغادر الخطاب الماركسي، بتحليل التراث وفق مقولة الصراع الطبقي، وكان قد سبقهما دكتور زكي نجيب محمود أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة بكتابيه «تجديد الفكر العربي» و»المعقول واللامعقول في تراثنا العربي» متأثرًا بالفلسفة الوضعية أثناء دراسته البريطانية، وهو يبحث عن (الأصالة والمعاصرة) في الفكر العربي، رغم أنه قدم قبل ذلك دراسة لافتة عن «جابر بن حيّان» سنة 1961م.
غير أن الجابري سجل مرافعته ضد جملة هذه المشروعات في كتابه «نحن والتراث» سنة 1980م وكان دكتور صادق جلال العظم أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق قد أصدر سنة 1969م كتابه «نقد الفكر الديني» على وقع هزيمة 76 المدوية، التي بعثت سؤال الهوية لدى المفكرين العرب، فلم ير الجابري في جملة مشروعاتهم سوى قراءات سلفية، استوى فيها اليميني والليبرالي والماركسي حيث لم تنتج إلا أيديولوجيا طغت على مداولة الفكر العربي المعاصر.. من هنا تكمن «لا تاريخيتها» وهي تستعيد سؤال شكيب أرسلان (المُتَردِّم) دون إجابة منذ سنة 1938م في كتابه «لماذا تقدم الغرب وتخلف غيرهم؟».
كان جواب الجابري في الربع الأخير من القرن العشرين، هو نقد الإنتاج النظري، فهو وحده ما سوف يحقق على (يديه)! (القراءة العلمية الواعية) بأحداث «القطيعة الإبستمولوجية التامة مع بنية العقل العربي في عصر الانحطاط» وامتداداتها إلى الفكر العربي الحديث، حيث ما يزال التراث يعشعش بعناكبه في عقول مجتمعاته، كما كان الظلام الكنسي يعشعش بعناكبه في عقول المجتمعات الأوروبية، فانبرى إيمانويل كانت يكتسحه بمشروعه العقلاني التنويري!
* *
هنا وجدنا الأنصاري الذي تحصل على الدكتوراه من الجامعة الأميركية ببيروت سنة 1979م يداول إشكالية النهضة العربية بأطروحته التي محورها حول (الفكر العربي وصراع الأضداد) مفرغًا وسعه برصد مسيرة العقل العربي في ثلث القرن العشرين بتحولاته في عقوده الأخيرة، وقد ارتطمت الأمة بحقائق ووقائع العصر الحديث في أبعاده المختلفة، منذ هزيمة الغزو الفرنسي سنة 1798م إلى هزيمة 1967م.
يقول دكتور الأنصاري: (بعد أن تتابع إخفاق السلفية في ردّ التحدّي الخارجي -بخلاف القانون التاريخي القديم- جاءت حركة الإصلاح التوفيقي، الأفغاني 1839- 1897- محمد عبده 1849- 1905- الكواكبي 1854- 1902) لتمثّل الأسلوب الآخر في التقليد الإسلامي لمجابهة التحدّي. فقد اتّضح أن التحدّي في جوهره حضاري وليس بعسكري أو ديني أو سياسي. والتوفيقية هي الاستجابة الإسلامية المثمرة في المواجهات الحضارية.
ونلاحظ أن التوفيقية -كشأنها تاريخيًا- ظهرت في البيئات الأكثر احتكاكًا بالحضارة والأكثر انفتاحًا على المؤثرات الخارجية. كما أنّها قبلت بالتعايش مع الحكم الأوروبي ومؤثراته الحتمية وبعض تشريعه -بخلاف السلفية- جاهدةً قدر الإمكان لصياغة تلك المؤثرات إسلاميًا، وإلباسها بالمصطلح الإسلامي: الديمقراطية تتطابق مع الشورى، المنفعة العامة تتوازى توفيقيًّا مع المصلحة الشرعية، الرأي العام الحديث يقارن بمبدأ الإجماع الفقهي، والضريبة بالزكاة.. إلخ
.. وهكذا بدأت مرحلة جديدة من التوفيقية هدفها هذه المرة خلق صيغة متوازنة بين قيم الإسلام والحضارة الأوروبية الجديدة، ليس بوضع الطرفين على جانب واحد من الأهمية صراحة -إذ لا يمكن وضع نظام إلهي بموازاة نظام بشري حسب معايير الإيمان الإسلامي- ولكن عن طريق التنظير التبريري أو الحجاجي أو الاعتذاري (القائم على مبدأ إرجاع القيم والمنجزات الأوروبية إلى جذور أو أصول أو قرائن إسلامية) بغض النظر عن المستندات التاريخية لهذا الإرجاع، أو الفروق القائمة بين طبيعة النظام الإسلامي والنظم الأوروبية. (وإذا كان محمد عبده قد بدأ هذه المعادلة بالقول إن الحضارة الصحيحة تتوافق مع الإسلام، فإن الرعيل الثاني من مدرسته مال بطرف المعادلة إلى الناحية الأخرى فقال إن الإسلام يتوافق مع ما تأتي به الحضارة).
هذا هو صميم النزعة التوفيقية التي فصل فيها دكتور الأنصاري مطارحته الشاملة للمداولات الفكرية والتجارب السياسية في عصر العرب الحديث منذ حملة نابليون على مصر إلى هزيمة 67 متوقفًا ودارسًا نقائضها الموضوعية في مجمل المداولات الفكرية والتجارب السياسية.
وهو ما تطارحه معظم دارسي مشروعات خطابات النهضة والتجديد في الفكر العربي المعاصر، ومنها تجربة دكتور الأنصاري، الذي استوعبها برؤية بانورامية مدهشة في كتابه الأساس (الفكر العربي وصراع الأضداد) وما دار حول هذه الأطروحة، من كتب ودراسات تناولت جملة القضايا الفكرية، على أقلام عدد كبير من المتفلسفين والمفكرين والأدباء العرب على امتداد مسيرة التجربة العربية وتحولاتها الفكرية والسياسية، منذ بداية النهضة العربية، إلى العقد الأخير من القرن العشرين.
غير أن كثيرًا منهم -وليس دكتور الأنصاري وحده- لم يتملكوا الجرأة الفكرية للنزول إلى قاع المجتمعات العربية- الخليجية خاصة- مكتفيًا- أي دكتور الأنصاري- بالرصد والمتابعة، متغافلًا بديالكتيته الهيجلية المثالية، الشروط الاجتماعية وراء قيام الحركات الفكرية التجديدية، باعتباره النزعة التوفيقية، لن تجد مخرجها المأزوم إلا بالتوحد، وفقًا لعقيدة الأنصاري الإسلامية وأيديولوجيته القومية.. هذه التي تبدت واضحة في كتبه (تكوين العرب السياسي) و(التأزم السياسي عند العرب وموقف الإسلام منه) و(رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية) وهو بهذا كأنه يعود إلى جذوره التربوية الأولى، بين أحضان أمه التي كانت تقرأ القرآن الكريم بلغة عربية فصيحة، وإلى تعلقه بوالده الذي كان يقرأ ويكتب عاملًا في قيادة السفن، ومحاسبًا لدى تجار اللؤلؤ، حيث التحق في صغره بالمدرسة الخليفية سنة 1950م متصفحًا بين رفوفها الكتب العربية التراثية والمعاصرة، متأثرًا كما كان يعبر في مسامرات حواراتنا الفكرية في بيته القديم بأم الحصم، بالتيارات العربية من مختلف الاتجاهات السياسية والأيديولوجية -والقومية في سنوات المد الناصري على نحو خاص- حتى أصبح بعد مسيرة طويلة حافلة بالإنجازات الفكرية، واحدًا من ألمع المفكرين العرب المهمين في العصر الحديث.