د. هيثم الصديان
لا شكّ في أنْ ما من اثنين، من المهتمّين بحركة النّقد العربيّ، يختلفون على أنّ الدكتور عبدالله الغذّاميّ واحد من أهمّ أعلام هذا النقد، ليس المعاصر فحسب بل عبر تاريخه كاملاً. بل ربّما صار أشهرَ النقّاد العرب المعاصرين، بعد إعلانه دعوى موت النقد الأدبيّ وإشهار النقد الثقافيّ بدلاً منه؛ فلقد تحّول هذا الأكاديميّ في العقدين الأخيرين إلى ظاهرة إعلاميّة وحالة ثقافية مميّزة في عالمنا العربيّ. وصار النقد الثقافيّ موضة فكريّة وثقافيّة، أخذ به كثير من المجدّدين وأصحاب النزوع الفلسفي، وتشبّث به جمعٌ غفير من هوّاة النقد الأدبيّ ومَن قصُر بهم مخزونهم المعرفي وقدرتهم العلميّة عن مستوى الاستيعاب الأدبيّ الرفيع وأسسه الجماليّة والبلاغيّة.
ولقد قدّم الدكتور الغذاميّ الأسس المعرفيّة لهذا النقد الجديد وقتَها على عالمنا العربيّ، ودعمه بعدّة مصطلحيّة ومنهجيّة وآليّة كاملة أو شبه كاملة، حيث لم يستطع ناقد ثقافيّ عربيّ الخروج الحقيقيّ والتّامّ من عباءة المؤسّس الأوّل.
وقد أثار هذا النّقد عليه كثيراً من الأسئلة، وقامت حوله كثير من الإشكالات المنهجيّة والمصطلحيّة والمعرفيّة، بعضها صحيح، وبعضها بسبب سوء فهم. لهذا حاول الدكتور الغذامي الإجابة عليها وتوضيحها، بغية إزالة ما يمكن أن يُزال من تلك الإشكالات؛ فأصدر منذ بضعة أشهر خلتْ كتاباً تحت عنوان: (إشكالات النقد الثقافي- أسئلة في النظرية والتطبيق).
والكتاب صغير الحجم من القطع المتوسط، وبأبعاد سطريّة محدودة، إذ يمكن أن يقال إنّه فصل من كتاب. لكنّ مَن يقرأ ما جاء فيه، مِمّن لديه اطّلاع سابق على نتاج الغذاميّ، فسيجد أنّ هذا الكتاب ينطوي على جملة من المفارقات، لعلّ أهمّها أنّه يحتوي على مادّة نظريّة وتطبيقيّة هي بحدّ ذاتها إشكال، أو أنّها تزيد الإشكالات السّابقة ولا تحلّها. بل لا عجب إن قيل إنّ قدراً كبيراً من الإشكالات المستجدّة تزول بأثر رجعيّ، أي هي تحتاج إلى الاستعانة بكتبه السّابقة لحلّ الجديد الذي جاء لحلّ القديم.
فيلاحَظ على هذا الكتاب تراجع في المستوى الأسلوبيّ الذي كان يتمتّع به الدكتور الغذاميّ في نتاجه السابق، من قوّة التعبير وجمال العبارة وقوّة بيانها، تراجعٌ يثير دّهشة مصحوبة بعدم تصديق.
وليت الأمر توقّف عند هذا الحدّ من الترهّل الأسلوبيّ، إذا جازت التّسميّة، فقد امتلأ الكتاب بالعبارات التي افتقدت الدّقة في التّعبير عن المراد، وكأنّك أمام نصّ لا يمكن أن يكون للغذاميّ، صاحب التعبير المتقن والنَفَس الشعريّ الواضح، الذي كان يتباهى يوماً أنّه سيجعل النقد يتكلّم بالعربيّة بعد عهود طويلة من الرطانة المصطلحيّة الجافّة (ينظر: عبدالله الغذامي والممارسة النقدية والثقافية: ص11)؛ فيحتاج معها القارئ إلى إعادة بعض الجمل والاستعانة بسياقها أو بمخزونه الثقافيّ لمعرفة المقصود، ليس لصعوبة مباحث الكتاب وإنّما لضعف ترابطها وهشاشة تماسكها، (ينظر من ذلك مثلاً: ص ص32، 50-51، 53، 65، 66، 95، 96، 101، 131، 134).
يضاف إلى ما سبق أنّ الكتاب يفتقد إلى التموضع الصحيح لعلامات الترقيم التي نُثرت كيفما اتُّفق، وتكثر فيه جمله الطويلة التي تزيد على ثلاثين كلمة(ينظر: ص ص31(33ك)، 32-33(41ك)، 55(39ك)، 119(44ك)، 122(52ك)، 129(49ك)، 133(42ك))، وبعضها وصل إلى سبع وخمسين كلمة(ص100). ثمّ بعد هذه الجمل الطويلة تلاقيك الفاصلة(،) وليس النقطة(.)!!.
ومن اللافت حقّاً أنّ الكتاب الذي قُسّم إلى ستّة فصول، لم يتضمّن إلّا فصلاً واحداً فيما يخصّ الإشكالات الاصطلاحيّة. وأمّا الفصول الباقيّة فقد كانت في التطبيق، وكأنّ الغذّاميّ افترض ضمناً أنّ المشتغلين بالنّقد الثقافيّ مازالوا هواة في طور التدريب، وعليه الأخذ بأياديهم، وربّما الأخذ على أيديهم، وتعليمهم كيف يمكنهم أن ينجزوا نقداً ثقافيّاً في مراحله الأولى ومستوياته البسيطة، ولهذا اعتمد على تطبيقات نصيّة سهلة وواضحة.
لكنّ أكثر المفارقات إدهاشاً هي ما يجوز أن نسمّيه مسيرة الإشكال التّصاعدية في الكتاب؛ فالكتاب يذهب في خطّ سير منتظم من الإنتاج الإشكاليّ، وفي كلّ فصل تالٍ تكون فيه حركة توالد الإشكالات أغزر من سابقه. فالكتاب يمكن أن نقسّمه بناءً على ذلك، إلى أربعة أقسام: الأوّل يقتصر على (الفصل الأوّل) فقط، وقد وضعه الدكتور الغذّامي للإشكالات النظريّة، فكان أكثر إشكاليّة، حتّى أنّ أمثلة الغذّامي افتقدت إلى الدّقة المفهوميّة والصحّة المنهجيّة التي كان قدّ سنّها ابتداءً في كتابه النقد الثقافي قبل أكثر من عشرين عاماً، ثمّ شّرعها في كتبه التّطبيقيّة اللاحقة عليه. وأمّا القسم الثاني فيتضمّن الفصلين (الثاني والثالث)، وهما فصلان في تطبيقات النقد الثقافيّ، لكنّها تشي بغير قليل من التّخبّط وعدم الصّحّة منهجاً وآليّة. والقسم الثالث الذي يشمل الفصلين اللاحقين (الرابع والخامس)، فهما فصلان حياديّان وبعيدان عن مفهوم النقد الثقافيّ، بل هما أقرب إلى موضوعاتٍ في نقد الثقافة، التي طالما ماز مشروعه (النقد الثقافي) من مشروع مَن سبقه ممّن عمل في (دراسة الثقافة) لا النقد الثقافيّ، ولقد كرّر هذا التمايز في هذا الكتاب(ص31).
وأمّا القسم الأخير، وهذا منتهى المفارقة وأكثرها إثارة للدهشة والعجب، فقد جاء في الفصل السادس الذي خصّه الدكتور الغذاميّ للحديث عن المكان ومستوياته الوجودية (العيانيّة والذهنيّة واللفظيّة والكتابيّة) من خلال نماذج وأمثلة ومواضيع متعدّدة. لكنّه اعتمد فيه، قاصداً أو ساهياً، على آليّات التّحليل الجماليّ ومنهجيّات النقد الأدبيّ لا الثقافيّ. وهذا على الرّغم من أنّ هناك ما يمكن أن يوحي أنّه تحليل ثقافيّ لا أدبي، بيد أنّ الفصل ارتكز على الأثر الذهني للمكان، وتحوّله إلى قيمة جماليّة نصيّة. حتّى أنّه عاد واحتفى بالقيمة الشّاعريّة أو الشّعريّة، من دون الالتفات إلى أيّة أنساق ثقافيّة مضمرة يمكن أن تكون قد اختفت تحت تلك الجماليّات. وكأن الغذّاميّ الذي أعلن قبل عقدين من الزمن موت النقد الأدبيّ ودعا إلى تبنّي النقد الثقافي بدلاً منه، يعود اليوم ليعلن موت النقد الثقافيّ، ليس إعلاناً نظرياً وإنّما إعلان عمليّ، حاله حال السياسيين والمرشّحين الذين تعلو مطالبهم وتكبر وعودهم في أوّل أمرهم، ثمّ لا يلبثوا أن يعودوا بعد دفع ولأي إلى واقعيّتهم الأولى، ويرضوا من الغنيمة بالإيّاب ومن السياسة بالسّلامة ومن الوعود بالممكن، كلّ ذلك يرضونه عن واقعيّة عمليّة متجنّبين الإعلان والصدع بها. علماً أنّ الغذاميّ حقّق من الإنجاز ما لا يمكن تجاهله. ولقد سبق أن قال: « وأنا لا ضير عندي أن أتراجع عن رأي رأيته من قبْل، حتّى لو نسفت كتاب الخطيئة والتّكفير من أساسه(الجهنية. ص176). وهو بالفعل قد نسف كتابه المذكور مثالاً بوساطة كتابه (النقد الثقافي)، فهل خطّ بيده نسف كتابه (النقد الثقافي)، بوساطة كتاب أعدّه لحلّ إشكالاته وتوضيح التباساته؟. وكأنّه يريد أن يقول: إنّ النقد الأدبيّ بأدواته وآليّات عمله هو الحلّ وهو المنتهى، وأنّ النقد الثقافي كان مولوداً خديجاً، كافح عقدين من الزمن، لكنّ بنيته الأساسيّة لم تساعده على الاستمرار أطول، بالرغم من احتفاء محبِّيه ومتبنِّيه بعد سنين من انتظار الرحم العقيم؟.
لقد سبق للغذّاميّ أن تطرّق إلى الحديث عن خريف العمر أو أرذل العمر، وذكر أنّه نهاية المرء لا محالة: « أيّ كائن بشريّ يدخل في المتغيّر الظّرفيّ فيرتدّ- أخيراً- إلى أرذل العمر» (رحلة إلى جمهورية النظرية. ص16-17). فلا شكّ في أنّ الإنسان، لا بدّ من أن يمرّ عليه خريف العمر إذا ما تقدّمت به السنون، هذه سنّة الكون، إذ تتراجع صحّته وتضعف ذاكرته. وكما يفقد محيّى المرء في تلك المرحلة بريقه الذي يذهب مع الشباب، كذلك تفقد مقدرتُه العقليّةُ وما ينتج عنها من مقدرة بيانيّة وفكريّة، بريقَها وسابق تماسكها؛ فلا زعمَ ولا تمحّلَ إن وُصف كتاب الغذاميّ الأخير بأنّه في مرحلة خريف تلك الكتابة التي عهدنا فيها بريق البيان وجماله يوم كان صاحبها خارج دائرة فصل الخريف؛ وقد قال الرافعيّ يوماً: في كلّ يوم يموت في الإنسان شيء، فإذا لم يبق فيه شيء يموت يقال: قد مات». فيبدو أنّ الغذامي قد استعجل موت النقد الثقافيّ ولمّا يزل فيه أشياء كثيرة لم تمت بعد.