د. محمد بن عبدالله السلومي
تُعَدُّ صيتة بنت ثواب الظاهري -رحمها الله- من أبرز رموز الشنانة النسائية في تاريخها المتقدم أو المُبكر، حيث وصلت لنا بعض الوثائق التي فيها كثير من التعاملات الخاصة بها في البيع والشراء، والمداينات والمواريث والتوكيل، وذلك في بلدة الشنانة التي تُعدُّ من أطراف الرس، وصيتة بنت ثواب الظاهري هي إحدى زوجات سليمان بن خليفة، ولها من الأبناء والبنات فهد وخليفة ومنيرة ونورة. ولم أطلع على تاريخ محدد لميلادها، وكتابة وفاتها كان بالتقدير الزمني، حيث الوثائق المتعددة عن تاريخ تعاملاتها تُثبت أنها عاشت زمن الفترة التاريخية الثانية للشنانة (1200هـ - 1322هـ).
وإذا كان من الأقوال الشائعة بين بعض الناس أن وراء كل رجل ناجح امرأة، فإن صيتة الظاهري -حسب ما ورد عنها- كانت من النساء المتميزات في زمنها بالعمل والإنتاج والرمزية، وهي من وسط عائلي دوَّن التاريخ عنهم صوراً من البطولة والنجاح، فهي من عائلة الظاهري التي منها: ثواب الظاهري الموصوف بأنه «عشير النشاما»، وكذلك مبارك بن ثواب الظاهري الموصوف بأنه «من عربان الشنانة» وهو الرمز المشهور على مستوى الشنانة والرس وغيرهما.
ومما اشتهر عن عائلة الظاهري أنهم من قبيلة حرب ممن وصلوا من الحجاز إلى الشنانة، وهم من مؤسسي البلدة مع غيرهم من العوائل والأسر التي قدمت للشنانة قبل عام 1200هـ -حسب بعض الروايات-، وكانت لهم وجاهة ومكانة بعد قدومهم للشنانة، خاصةً زمن الحملات الأجنبية الغازية على نجد والدرعية بصورةٍ واضحة، وكان للشنانة والرس نصيبٌ من المواجهات مع هذه الحملات. ومبارك بن ثواب الظاهري كان يُعَدُّ من أبرز رموز الشنانة وأعلامها، كما وُصفت عائلة الظاهري بأنها من بين أوائل من مَلَكَ أقدم مربط خيل عُرف باسم (مربط خيل الظاهري)، واشتهرت هذه العائلة بما عُرف عنهم تاريخياً بملكيتهم لما يُسمى (فرس الهدبا) والتي أهداها الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود إلى إبراهيم العريني «راعي منفوحة»، واشتراها منه الشيخ مبارك بن ثواب بن بديد بن مضيَّان الظاهري، وذلك زمن الدولة السعودية الثانية في حياة الإمام عبدالعزيز المتوفى عام 1218هـ، وقصة هذه الخيل مذكورة في معظم كتب الخيل ومشهورة بارتباطها بعائلة الظاهري كما هو مُدَّون في كتاب حمد الجاسر (أصول الخيل العربية الحديثة).
ومن الوثائق المهمة المعنية بالخيل ما ورد في دفتر وثائق الأمير مهنا الصالح أبا الخيل. والتي ورد فيها اسم صيتة بنت ثواب الظاهري، وإقرار ابنها فهد السليمان الخليفة ببيع المهرة الحمراء الفرس بنت العبية والتي أبوها حصان عبدالرحمن بن إبراهيم ربدان، وهو الذي دَرَجَ عليهم من حرب. والمشتري هو مهنا أبا الخيل، بقيمة (40) ريالاً فرانسيًا. في وثيقة كتبها سعيد العبدالله بن صقيه في 13 ربيع ثاني 1287هـ، وفي هذه المبايعة ما يُعزِّز ما ورد في بعض الوثائق بأن ثقافة الخيل العسكرية ربما كان مجيئها للرس والشنانة في تلك الفترة من خلال عائلة الظاهري التي قدمت من الحجاز، وذلك حسب هذه الروايات عن الفَرَس أو الحصان «والذي درج عليهم من حرب» وهي تعكس قِيَم الفروسية والشجاعة عند هذه الأسرة وهذه البلدة.
وصيتة هي زوجة لسليمان الخليفة المتوفى عام 1276هـ، حسب إحدى الروايات عن وفاته، وهو المعروف بمدايناته الزراعية والتنموية وبيعه وشرائه بالشنانة، وهي أم لابنه فهد كذلك، والخليفة ممن قدموا للشنانة عام 1200 للهجرة، وممن أسهموا بتنمية البلدة مع من سبقهم من العائلات ومن لحق بهم كذلك.
تاريخ ووثائق:
ومن أبرز الوثائق التي ورد فيها ذكر صيتة وأبنائها هي: إقرارهم بيع البئر المسماة الخميسية بالروضة بأسفل روضة الطرشان، والمشتري هو الشيخ محمد بن عبدالعزيز الرشيد. والمبيع شامل للآبار والأرض والقصور والمنازل والمسيل في وثيقة كتبها القاضي صالح بن قرناس وذلك سنة 1290هـ.
وورد بإحدى الوثائق توكيل صيتة بنت ثواب الظاهري لابنها فهد السليمان الخليفة لبيع محلَّهم الكائن بالشنانة المسمى (فوزة) وما يتبعه من أرض وأثل وطرق ومساكن ومسيل وحي وميت وخشب وما ينسب إليه شرعاً وعرفاً. والمشتري هو عبدالرحمن المحمد البراهيم بن صويان وكيلاً عن أبيه. وذلك بثمن قدره خمسمائة ريال عين فرانسي. وذلك في وثيقة شهد بها وكتبها الشيخ صالح بن قرناس وهي المحررة في 6 رجب 1297هـ، وعائلة الصويان ممن سكنوا الشنانة قبل عام 1200هـ، وهم ممن أسهم في تأسيسها وعمرانها المُبكر مع الشارخ وآل زهير عموماً والظاهري وغيرهم.
ومن الوثائق لصيتة بنت ثواب، وصية ورثةٍ وَرَدَ فيها حضور زامل العبدالله بن سليم وأبناء عبدالله اليحيى السليم ووصية زوجة زامل منيرة بثلث مالها، وإقرار منيرة بنت سليمان الخليفة ووالدتها صيتة بنت ثواب الظاهري بذلك، وقد كتبه علي آل محمد في شوال 1302هـ ونقل ذلك بحروفه علي بن محمد السناني، وفي هذه الوصية وما يُماثلها من وصايا خيرية ما يعكس ثقافة الوقف وأعمال الخير والبر في مجتمع عوائل الشنانة وغيرها من البلدات آنذاك.
ومن الوثائق المتأخرة في حياة صيتة الوثيقة التي ورد فيها الإشارة لنصيب صيتة بنت ثواب الظاهري وميراثها من ابنها خليفة السليمان، وكان وكيلاً عنها حفيدها شاهر بن فهد السليمان الخليفة، وذلك في وثيقة كتبها وشهد بها صالح بن قرناس في غرة محرم 1308هـ، وهي آخر وثيقة زمنية تم الاطلاع عليها مما يخص صيته الظاهري، وهذا ما يُرجح أن وفاتها تقديراً ربما كان عام 1309هـ.
ومن خلال دراسة الوثائق المتاحة المعنية بصيتة يتضح تمكّنها من إدارة شؤون حياتها وتمتعها بحقوقها في البيع والشراء، وهو ما يعكس شيئاً من وصف الحياة الاجتماعية لبلدة من بلدات نجد آنذاك كأنموذج عن حقوق المرأة ودورها، حيث كان الالتزام بتشريعات الإسلام في تلبية حقوق المرأة المالية، وفي الوقت ذاته فإن نجاح هذه المرأة ومكانتها هو نتاج نجاح عائلتها وزوجها كذلك، وتبادل المنافع والنجاحات بين الرجل والمرأة وبين الزوج وزوجته يُعدُّ من الأمور الطبيعية والفطرية، فكل واحد منهما يستمد قوَّته وإمكاناته من الآخر بمساواة التكامل وليس بمساواة التماثل، كما وصف ذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: (النساءُ شَقائقُ الرِّجالِ)(1).
وحسب بعض الوثائق عن صيتة وحياتها حينما تقدم بها العمر، فقد اعتنى بها ابنها فهد وأحفادها، وهذا مما يعكس مفاهيم القوامة على المرأة والتقدير لها والرعاية لها كذلك في أزمنة مضت، وهو مما دعا إليه الإسلام من تكريمٍ للمرأة والعدل معها وتقديم الرعاية والعناية والتمكين لها في مختلف الأعمار ومراحل الحياة، فقد عاشت المرأة -ومن ذلك صيتة- كل صور التمكين في حقوقها من الزواج والإنجاب والاتجار والعمل بالمزارع والتربية للأولاد وحقوق الميراث، وكل هذا من صور التكريم لها، بعيداً عن بعض المزايدات الغربية على دين الإسلام أو على مكانة المرأة في المجتمع السعودي خاصةً أزمنة الأثر الكبير لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- وما يثار عليها من أوصاف التشدد! بل إن هذه المكانة للمرأة بالتكريم لها يُعدُّ أمراً متقدماً في تحقيق الحقوق، ومختلفاً عن بعض ثقافات الأمم والدول والمجتمعات الأخرى في التعاطي الخاطئ مع حقوق المرأة وكرامتها ومكانتها روحاً وجسداً.
ومن جوانب بعض التقاليد في الحياة الاجتماعية آنذاك مما تجدر الإشارة إليه، أن زواج صيتة بنت ثواب الظاهري الذي كان من سليمان الخليفة قد حصل عن طريق هذا الزواج انتقال اسم ثواب للخليفة، وكذلك اسم شاهر من عائلة الظاهري إلى عائلة الخليفة، حيث إن ثواب بن خليفة السليمان الخليفة جدته صيتة وتسميته ثواب كان على والدها، بل وأصبح ذرية ثواب الخليفة يُعرفون باسم الثواب من الخليفة. وكذلك كان شاهر بن فهد السليمان الخليفة حفيد صيتة، وقد كان اسم شاهر من أحد أبناء مبارك الظاهري كذلك.
ويُعدُّ وصول عائلة الظاهري للشنانة وزواج صيتة الظاهري أنموذجاً من نماذج شتى يُمكن لأي دارسٍ في التاريخ والديموغرافيا السكانية أن يستفيد من أنموذج الشنانة، حيث استوعبت البلدة المحدودة بأراضيها أُسراً متعددة وعوائل من قبائل متنوعة وبتقاليد وعادات مختلفة حينما اجتمعوا بها من أماكن قريبة وبعيدة، وكان الاندماج بين العوائل والمصاهرات والتعايش والتسامح بين أهالي الشنانة واقعاً مشهوداً، حيث لم يُدوِّن التاريخ عنها أو عن أهاليها صراعات أو اقتتالٍ ودماء على الموارد أو غيرها، أو نِزاعات ونزعات قبلية مُستَهجَنة ومَشينة، كما هو حال ما ورد في التاريخ عن بعض البلدات آنذاك، وهي منقبة رفيعة تُسجل لبلدة الشنانة وأهاليها حينما عملوا بالتعارف والتآلف والمصاهرات والتعاون العائلي والمجتمعي.
والقراءة عن هذه المرأة المتميزة وغيرها من نساء مجتمع الشنانة لا تزال مفتوحة، وتتطلب مزيداً من البحث، ليكون الوفاء بالكتابة عنها وعن غيرها بأكثر مما كُتب حول الرموز النسائية زمن العصور الإنتاجية، ولعل الوثائق التاريخية المغمورة تفي بذلك عنها وعن ظروف عصرها ومجتمعها في كتاباتٍ تاريخيةٍ مأمولة إن شاء الله.
(1) رواه أبو داود في سننه، حديث رقم (236).
** **
- باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث