د. تنيضب الفايدي
جُنَفاءُ بالتحريك والمد والقصر، وبضم أوّله أيضاً في الحالتين، وكأنَّ أصله من الجنَف، وهو الميل. المغانم المطابة للفيروزآبادي (2/728) قال زبّان بن سيّارٍ الفزاري:
فإنَّ قلائِصاً طوَّحْنَ شهراً
ضَلالاً ما رحَلنَ إلى ضَلالِ
رحَلتُ إليك من جنفَاءَ حَتَّى
أنخْتُ حيال بيتك بالمطالي
وقد أنشدوا على المقصور قولَ الرَّاجز:
إذا بلغْتِ جنَفَا فنامي
واستكثري ثمَّ من الأحلام
والشملي هو الاسم الجديد لهذه القرية القديمة التاريخية (وهي جنفاء) أو إحداهما جزء من الأخرى. حائل للدكتور/ تنيضب الفايدي
(ص114)، وتحتوي جنفاء آثار عمران قديمة وآبار وأساسات وأبنية ومزارع وكتابات أثرية، تدل على أنها مستوطنة منذ القِدم، فقد عثر فيها على مجموعة من الشواهد الأثرية القديمة تمثلت في عدد من النقوش العربية القديمة «الثمودية» والرسوم الصخرية، كما عثر أيضاً على كهف حجري طبيعي صغير رسم بداخله أشكال لحيوانات الماشية. حصر وتسجيل الرسوم لـ: عبد الرحمن بكر كباوي (ص88).
وتنتشر في محيط بلدة الشملي مجموعة من المواقع الأثرية هي: جبل غرناطة، والعاقر، واللاقط، وساحوت، والكحيلة، وبيضة النثيل، والسحابة، وغار الحويل، والمنورة، وغرمول فهد، والعماير، وأم شطبان، وقطاع الحريص، وروضة الفهيد، والفروثية، والمهانين، وحنين، وخنصر، خنيصر، وتلال العفة، وشيهات، والعويقلات، وجميع هذه المواقع تحتوي على مجموعة من الرسوم الصخرية البشرية والحيوانية، والنقوش الثمودية. الوسوم لـ: مجيد خان (ص25).
وجنفاء كان فيه منهل مشهور، وعلى هذا المنهل كان قرية لبني فزارة وهي من أمنع قراهم، وقد جاء ذكر جنفاء في سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- حيث لها علاقة بغزوة خيبر (الغزوة الذي أدخلت الفرح في قلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- )، فقد روى موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: كانت فزارة ممن قدم على أهل خيبر ليعينوهم ضد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، فراسلهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ألا يعينوهم، وسألهم أن يخرجوا عنهم، ولكم من خيبر كذا وكذا، فأبوا، فلما فتح الله خيبر أتاه عيينة بن حصن الفزاري فقال: أعطنا حظنا والذي وعدتنا فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: حظكم - أو قال - لكم ذو الرقيبة، لجبل من جبال خيبر، (له ما يشبه الرقبة لا زال يطلق عليه ذو الرقيبة، ويروى أن عيينة بن حصن رآه في المنام وظنّ أنها رقبة مملوءة ذهباً)، وعندما رآه بأنه جبل، فقال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذن نقاتلك، فقال: موعدكم جنفاء، أي: سنغزوكم في أمنع دياركم. فلما سمعوا ذلك خرجوا هاربين. المغازي للواقدي (2/639).
والجنفاء: موضع بين خيبر وفيد. وكان عيينة بن حصن الفزاري ضد انتشار الإسلام حيث جمع قبيلته مع الأحزاب (غزوة الخندق)، كما أن فزارة كانت السبب الرئيس لغزوة الغابة وأرادت أن تساعد يهود خيبر، وبقي عيينة بن حصن الفزاري كذلك حتى زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقد روى البخاري أن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- قال: قدم عيينة بن حصن، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته، كهولاً كانوا أو شباناً، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟ قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس فاستأذن لعيينة، فلما دخل قال: يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل وما تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همّ بأن يقع به، فقال الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه- صلى الله عليه وسلم-: «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين» وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقافاً عند كتاب الله.
وللجنفاء ذكرٌ في كتب السير والتراجم حيث إن الصحابي أبو الشموس البلوي- رضي الله عنه- جاء أنه سكن جنفاء ومات بها. في شمال غرب الجزيرة للجاسر (ص499).
ومن الأحداث التي شاهدتها جنفاء عهد الخليفة العباسي الواثق بالله (سنة 231هـ) حيث تمردت بعض القبائل على سلطته، فأرسل لهم جيشاً من بغداد فحاربهم واتخذ من جنفاء مقراً له وعسكر فيها فترة من الزمن حتى استقرت الأوضاع.
والشملي جزء من الجناب، والجناب أرض واسعة تتشكل من شمالي مركز العشاش شمالي خيبر وشرق تيماء وهي ديار لقبائل عربية تشترك فيها قديماً غطفان وعُذرة وبلي وجهينة، وذكر الجناب في الشعركثيراً، قال الشماخ:
أقول وأهلي بالجناب وأهلها
بنجدين لاتبعد نوى أمّ حشرج
وقال الحارث بن المري:
ملأنَ الأرض مكرُمةً وخيرا
إلى ما بين وجرة فالجِناب
وذكر في الطبقات لابن سعد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسل سرية بقيادة بشير بن سعد إلى يُمْن وجبار في شوال سنة سبع حيث بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن جمعاً من غطفان بالجناب قد واعدهم عيينة بن حصن ليكون معهم ليزحفوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان دليل سرية بشير بن سعد حسيل بن نويرة الأشجعي دليل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى خيبر، فانهزم جمع عيينة وقتل عبدٌ له، وأصابت السرية إبلاً وغنماً، وانهزم عيينة، ولقيه الحارث بن عوف منهزماً فقال: قد آن لك يا عيينة أن تقصر عما ترى.
والجناب أرض واسعة وجميلة جداً في الربيع فقد شاهد ذلك المؤلف في بعض أجزائها وتذكّر قصة ميسون بنت بحدل بن أنيف من بني حارثة بن جناب الكلبية التي أحبت هذه الديار وفضلتها على حدائق دمشق ولاتبغي للجناب بديلاً حيث قالت:
فما أبغي سوى وطني بديلاً
فحسبي ذاك من وطنٍ شريف
وميسون هي زوج معاوية -رضي الله عنه- وأم ابنه يزيد، قالت ذلك البيت ضمن قصيدة تتشوق إلى وطنها نجد وكل ما ارتفع من الأرض فهو نجد والجناب تعتبر من نجد:
لبيت تخفق الأرواح فيه
أحبّ إلي من قصر منيف
وبكر يتبع الأظعان سقباً
أحب إلي من بغل زفوف
وكلب ينبح الطراق دوني
أحب إلي من قط ألوف
ولبس عباءة وتقر عيني
أحبّ إلي من لبس الشفوف
وأكل كسيرة في كسر بيتي
أحبّ إلي من أكل الرغيف
وأصوات الرياح بكل فج
أحبّ إلي من نقر الدفوف
وخِرْقٍ من بني عمي نحيف
أحب إليّ من علج عليف
«خشونة عيشي في البدو أشهى
إلى نفسي من العيش الطريف»
فما أبغى سوى وطني بديلاً
فحسبي ذاك من وطنٍ شريف
قال معاوية -رضي الله عنه- حين سمع هذه الأبيات: « ما رضيت يا ابنة بحدل حتى جعلتني علجاً عليفاً، فالحقي بأهلك». فطلقها، وألحقها بأهلها، وقال: «كنتِ فبنتِ « فقالت: لا والله، ما سررنا إذ كنّا، ولا أسفنا إذ بنّا». وكانت حاملاً بيزيد، فوضعته في البرية، فمن ثَمَّ كان فصيحاً صلباً. وتظهر إجابة ميسون لمعاوية قوة شخصية المرأة العربية وشموخها واعتزازها بنفسها وبقومها وبوطنها. تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي للدكتور/ حسن إبراهيم (1/285).
إن تلك المواقع الأثرية تعبر عن الماضي المجيد للوطن، ما تبقى فيها من الآثار لها دلالات تاريخية على حضارة الشعوب وقوتها، ومدى قدرتها على البناء والتفكير، علماً بأن لدى الكاتب ثقة بأن ما يكتبه عن الأماكن يُدخِل البهجة والسرور إلى القلوب لارتباط أغلب كلماته بالأدب والحبّ؛ لتعطي متعة القراءة ومتعة الأدب ومتعة السفر داخل أرجاء الوطن.