حنان بنت عبدالعزيز آل سيف
أبو حيان التوحيدي أديب عصره، وناسج وقته، وبوصلة ثقافته، وهو مبدع في نقل المعاني والمعارف، من كتب من عاصرهم، ومن نتاج من سبقوه في الزمن.
عاش التوحيدي في خضم وزهاء القرن الرابع الهجري والذي كان على طرفي نقيض من تدني مستوى الحياة الاجتماعية والاقتصادية، غير أن الحياة الثقافية توسعت ونمت، فشهد هذا القرن الذي يوافق العصر العباسي الثالث نتاجاً فكرياً بديعاً، قلما عرفته الأمة العربية الإسلامية من ذي قبل، امتعض أبو حيان من الفقر كثيراً فعاش شاكياً حاله وعصره وزمانه، فوالده فقير مدقع ورثه شظف العيش وحرقة اليتم، وبعد وفاته انتقل إلى كفالة عمه الذي قسا عليه كثيراً، ولم يجد في كنفه رحمة أوحناناً أوعطفاً.
امتهن حرفة الوراقة من نسخ الكتب وبيعها، فجعلت منه بحراً زاخراً، وموسوعة علمية، وأدبية حية، وكانت من أهم الروافد التي جعلته دائم القراءة، وكثير الاتصال بثقافة عصره، ومع ذلك لم ترضه هذه المهنة، وكان حظه داثراً كقول الشاعر:
إنّ حظّي كدقيق ٍ
فوقَ شوكٍ نثروهُ
ثمّ قالوا لحُفاةٍ
يومَ ريح ٍ أجمعوهُ
صعُبَ الأمرُ عليهمْ
ثم قالوا اتركوهُ
إنّ من أشقاهُ ربِّي
كيفَ أنتم تسعدوهُ؟
أليس التوحيدي هو من وصف نفسه في رسالة الصداقة والصديق بقوله: (.. لقد فقدت كل مؤنس وصاحب ومرافق ومشفق.. ووالله لربما صليت في الجامع فلا أرى جنبي من يصلي معي فإن اتفق فبقال أو عصار أو نداف أو قصاب.. فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، ملازماً للحيرة، محتملاً للأذى، بائساً من جميع من ترى)، وكان وزراء الحقبة التي عاش فيها أدباء، وبلاطهم منتدى كل من المفكرين والبارزين وصناع الثقافة، فما كان منه إلا السعي الحثيث للاتصال بهم والحظوة عندهم، فاتصل بأبي الفضل بن العميد وابنه الملقب بأبي الفتح ابن العميد، فلم يكن حظه مع الابن إلا كحظه الداثر مع أبيه، فقد عاد منهما بخفي حنين، ثم حط ركابه عند الصاحب ابن عباد وهو وزير مرموق فاضل من وزراء دولة بني بويه، ومن سوء حظ التوحيدي أن الصاحب ابن عباد كان يكره الفلاسفة، فجعل منه وراقاً فكان يصل الليل ويطوي النهار في هذه الحرفة، فلبث عند الصاحب بن عباد ثلاث سنين، ثم خرج من بلاطه صفر اليدين، فوظف لسانه وأطلق قلمه في النيل منه والغض من قدره، وقد كان لا يداري ولا يجاري ولا يماري مما شحن وأوغر النفوس عليه، وكان لسان حاله يقول:
سيصبح القوم من سيفي وضاربه
مثل الهشيم ذرته الريح بالمطر
ثم اتصل بالمهلبي وزير معز الدولة البويهي إلا أنه نقم عليه أموراً عليها سمة الزندقة فساءت الحال بينهما، وهدده بالقتل، غير أن أبا حيان لم يفقه لغة التخاطب مع الوزراء وذوي النفوذ، وعلّ انتقاله المفاجئ من سوق الوراقين ودكاكينهم إلى بلاط علية القوم لم يمكنه من لغة الملك والسياسة والوزارة، فقد عاش مخروق اليد، يجيد لغة الثلب، كما وصفه الأديب ياقوت الحموي بقوله: (الذم شأنه، والثلب دكانه)، وقد كان يعود من لقيا الوزراء وأرباب السياسة خائب الآمال، وعلّ هذا هو الوازع من إحراقه لكتبه وهو في التسعين من عمره، ولم يبق منها إلا سبعة عشر كتاباً ألمح إليها ياقوت الحموي، وقد أحرقها ضناً بمن لا يعرف قدرها، ولا يبجل شأنها.
ويقول السيوطي في بغية الوعاة: أنه لما انقلبت به الأيام رأى أن كتبه لم تنفعه وضن بها على من لا يعرف قدرها، فجمعها وأحرقها فلم يسلم منها غير ما نقل قبل الإحراق. ومن كتبه التي عتقت من عقة الدهر، وإدالة الزمان، ولم تكن وقوداً للنيران: تقرنيط الجاخط، والنوادر، والصداقة والصديق والبصائر والذخائر، وثلاث رسائل إحداهن في الكتابة وهي من أنفس ما سطره يراع العلماء في علم الخط،فقد كان التوحيدي خطاطاً ماهراً على نفس ابن مقلة في رسم الخط، ومنها أيضاً المحاضرات والمناظرات، ومثالب الوزيرين ابن العميد وابن عباد.
ومن كتبه التي فقد رسالة في الرد على ابن جني في شعر المتنبي، ورسالة في الحنين إلى الأوطان، ورسالة في الصوفية، وأخرى في أخبارهم، ورسالة في صلات الفقهاء في المناظرة وكتب أخرى، عقها الزمان، ودالت عليها الأيام. والكتابة التوحيدية امتازت بأنها من أنفس وأبهى كتابات النثر العربي عامة كما وصفها آدم رقس، ففيها شمول واتساع، ثم هي محلاة بالشعر والمثل والحكمة والجد والوعظ، وقد عاش أبو حيان التوحيدي عمراً طويلاً ربا على التسعين سنة، وفيه شبر الأرض وخبر الناس، وطاف فارسا والعراق وأرض الحجاز، واستطاع أن يكون من أقوى الفلاسفة الذين عنوا بسيكولوجية الإنسان من خلال طرق حالاته، والوقوف على نزاعاته، وهو كما جاء على لسان الأديب ياقوت الحموي. (أديب الفلاسفة، وفيلسوف الأدباء)، وقد زخرف فكره الفلسفي بالقلب والمقال الأدبي، واتضحت هذه السمة عند كل من الجاحظ وابن المقفع والمعري والتوحيدي، فهم قد عالجوا الهم والوحدة والغربة والشؤم، وطرزوا هذه القضايا برسم المشاعر، ووصف الأحاسيس في وجود يتسم بتناقض الدهر وتباين تصاريفه، فأدبهم جاء معبراً عن مآسي الإنسان، وتألق أبوحيان التوحيدي من بينهم بمزج العاطفة الشعرية بالسياق الفلسفي، كما تميزت شخصية التوحيدي باطلاع موسوعي معرفي دقيق، وتحليل نقدي بديع، فهو من أعلم الناس بثقافة عصره دراية ورواية، وكتبه ومفات عقله خير شاهد على هذا، وقد تعرض لمسائل فلسفية تتسم بالإبهام وعدم الوضوح، تجلى فيها أسلوب الفلسفة التعليمي من الإدلاء بالمعلومة ثم النصح والتوجيه والتحذير، وإذا خرج منها لوصف الزمان، ورسم البيان من حديث الفقر والكد والجهد والحرمان سال سيله فأفاد وأجاد وأبدع.
ورسالة الحياة هذه والتي تقع أيها الحصيف قراءتها بين ناظريك هي رسالة فلسفية خاطب فيها أبو حيّان التوحيدي العقل، والعقل عنده هو: (الملك المفزوع إليه والحكم المرجوع إليه من كل حال عارضة.. به ترتبط النعمة، وتستدفع النقمة، ويستدام الوارد، شريعته الصدق، وأمره المعروف، وخاصيته الاختيار، ووزيره العلم، وظهيره الحلم، وكنزه الرفق، وجنده الخيرات، وحليته الإيمان، وزينته التقوى، وثمرته اليقين). وبدأ التوحيدي الرسالة بطرق البسملة والحمد له، بطريقة مباشرة موظفاً فيها الصور البلاغية التي يستطيع عقلك من أول وهلة التقاطها، والتشبيهات اللفظية المحبوكة ضمن عبارات أدبية صاغها بلغة بيانية نادرة عالية، وارعه سمعك ليصب في أذنيك المشهد التالي: (.. أرنا الحق في معرضه البهي المونق حتى ننتحله موقنين، وبين لنا الباطل في منظره الزريّ حتى نولّي عنه معرضين،.. وهنيئاً للحذر من خطرات الحيرة، ونظرات الحسرة. واملأ قلوبنا بالنور الذي من خُص به أبصر ما دونه فتوفاه، وما فوقه فتلقاه، وما عن يمينه فاختاره، وما عن شماله فاحتذر منه..) وعلى منوال هذا النفس البياني يشير إلى موضوع الرسالة فيقول: (جرت أدام الله روح قلبك، وبرد فؤادك مذاكرة في البيان عن أصناف الحياة التي هي محبوبة كل نفس، ومطلوبة كل ذي حس، وكان الكلام فيها الكلام يقسو مرة، ويلين أخرى، ويخمد طوراً، ويتقد طوراً، ولا يأتلف ائتلافاً، له فنون ترسم بالعلم، وتنبسط باللفظ، وذلك لكلول الحدة، وعلو السن، ونضوب ماء الوجه.. وكبيد قوى الطبيعية، وتهافت قوة الفطرة) وعلك لاحظت أمراً هاماً، وهو أسلوب الرسالة والذي جاء على طريقة الأسلوب الجاحظي، فهو تلميذ لمدرسة الجاحظ، وقد خصه بكتابه: (تقريظ الجاحظ) وهو الأسلوب الذي يبدأ بالدعاء، ويرتكز على المعنى، مع إطالة وإطناب محلى بالنادرة والحكمة وضرب المثل، مزين بالسجع في أبهى صوره وأجمل صياغاته، مع عدم إيغال فيه ولا في المحسنات البديعية، فالتوحيدي يرسم منهجه الكتابي في القول التالي: (إن البليغ يبرأ عن التكلف ويتباعد عنه،.. وصاحبه مذموم، ومن استشار الرأي الصحيح علم أنه السلامة في الطبع أحوج من مقالبة اللفظ)، وسار التوحيدي على أسلوب السجل المعطل حيث تقسم الفقرات إلى جمل قصيرة أشبه الأشياء بالأسلوب الشعري الحديث، والذي يراعي فيه التنغيم اللفظي مما جعل لغته متأرجحة بين الشعر والنثر فهو يقول لك: (أحسن الكلام مارقّ لفظه ولطف معنه، وقامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم)، فمن هنا صاغ الرسالة بألفاظ متناسبة ومعاني متشاكلة، فالتوحيدي بليغ حاذق، يعرف مخارج اللغة ومداخلها، فيتلاعب باللفظ تلاعباً ينم عن قريحة أدبية على أعلى المستويات، فياقوت الحموي نعته باللفظ التالي: (... محقق المتكلمين، ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء، وفرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة وفصاحة ومكنة) هذا وقد ألف أبو حيان هذه الرسالة استجابة لطلب أحد الرؤساء في عصره، ولم يصرح باسمه، بل سام شذرات من وصفه فقال:
(عرف ما عليه وله، وقصر زمانه على اختيار النافع عاجلاً، واجتناب الضارآجلاً، مع أشغاله المتكاتفة، ونظره المتوزع)، كما عرج على نطف من كلامه، فهو قد حضه على التأليف لهذه الرسالة بقوله: (في نشر الحكمة ثواب روحاني، وذكر دهري، وصيت باق، وبهجة مرموقة) وعلى عادة التوحيدي في الاستجداء بمؤلفاته قال: (حضّ على تأليفه في كتاب، وتلطف في ذلك بأحسن قول، ووعد عليه أجزل ثواب..) ورغم وعد الرئيس الصديق لأبي حيان بالثواب الجزيل إلا أن روح التشاؤم واليأس هي الدارجة عند أبي حيان- (ولكن أين البال الرخي، والفؤاد الذكي، واللسان الحليف، والصديق المساعد، والمستمع الواعي)، وقوله: (.. فلا جرم لا باب للعرف إلا وهو مسدود، ولا جُرف للعقل إلا وهو منهار، ولا جانب للفيض إلا وهو منثلم..) ويمعن أبو حيان في تشاؤمه ويأسه وإحباطه بقوله: (هيهات غامت سماء العلم، وأظلم جو البيان، وانكسر فقار الدين، وتحطم عمود الشباب) كما لا يخلو من شكاية تقلب الزمان، وثكلات الحدثان (.. إلا أن يأذن الله بفرحة يقيضها.. ونظرة يجبر بها كسر الزمان...) وفي استهلالة الرسالة حديث له عن خطة سيره، ورسم منهجيته في تناول حقائق هذه الرسالة المؤلفة وكنهه: (أعود فأقول في شرح أصناف الحياة بمبلغ العلم الذي عندي، فإذا فرغت منه أضفت إلى جملته فقراً شريفة، بعبارات مألوفة، على قدر الرسالة فإن تلك أشبه للحال، وأجلب للفائدة، وأحسم لمادة التكلف، وأبلغ إلى الفرض المنحو، وآتى على المراد المقصود إن شاء الله تعالى)، وبعد هذا يمعن التوحيدي في سرد أصناف الحياة التي يعيشها البشر وهي عشرة أصناف نصّ عليها، غيرأن الحياتين الباقيتين قال فيها: (والصنفان الآخران أحدهما حياة الملائكة، والآخر له أن الله عز وجل حي، ثم صفة هاتين الحياتين فهما على حد قوله: (... تفتع في أمريهما بالكتابة عنهما، لإشكال الكنه فيها، ولإضراب العقل عن تحديد هما.. تحديدهما).
الحياة الأولى: حياة الإنسان التي بها يُحس ويتحرك ويلذ وينعم ويشتكي ويألم وهي مشتركة بين مخلوقات الله كلهم وصنعتها كما يقول: (فأما في نفس الحياة فهي في الجنس والنوع والشخص واحد).
الحياة الثانية: حياة العلم والمعرفة وهي تستفاد من التأييد الإلهي والاختيار البشري، وشروطها التي تلزمها: (النية الحسنة والسعي الدائم، والمحبة النفسية واللطافة الروحية والرقة المزاجية) وسبب اشتراك المخلوقات في الحياة الأولى لأنها حياة الجبلة والفطرة، وأما الحياة الثانية فالناس يتفاوتون فيها على قدر الحظ والاطلاع والسلوك والعزيمة، وصاحب هذه الحياة إن استمر في كسب المعارف والفوائد صار شبيه الملائكة، وهذا سر قولهم: إن العالم أحيا من الخامل.
الحياة الثالثة: حياة العمل الصالح والعطاء والعشرة والصداقة. وإذا أضيفت الحياة الثالثة للحياتين الأولى أورثت صاحبها شرفاً أبدياً وعزاً سرمدياً ونتائجها: السعادة والبقاء.
الحياة الرابعة: حياة الديانة والسكينة وبها يكون خير الدنيا، ويتحقق خير الآخرة، وهذه نتائجها تكميل الناقص، وإرشاد الغوي، واستبصار العمى. وهذه الحياة الرابعة لم يمعن فيها وفي وصفها وذلك بسبب: (أن تمجيد الدين دويل لا غاية له فيوقف عندها، ولا حد له فينتهي إليه).
الحياة الخامسة: حياة الأخلاق، ونتيجة تهذيبها والتهذب بها العيش الهنيء، لصاحبها ولمن يتعايش معه، كذلك صفاء السريرة والسعي البر. والحياة الخامسة سبب فرزها عن الحياتين الثالثة والرابعة لأن الخُلُق تابع للخلق، وأقسام هذه الحياة الخامسة:
1 - قسم يزول بالرياضة. 2 - وقسم يقل بها، 3 - وقسم لا يتم التخلص والطهارة منه.
وأما سبب الإشارة إلى الحياة الخامسة دون الإسهاب فيها، أوعلى خلق منها لأن العلماء أسهبوا فيها فألفوا كتباً ضربوا لها المثال، وسحبوا عليها المقال.
الحياة السادسة: وتكون بالتلازم والتناظم والاجتماع من الحيوات التي قبلها، ومن هذا الاجتماع تنتظم للإنسان حياة جديدة، وذلك لأن الأشياء المفردة تختلف في طبيعتها عن الأشياء المتضامة،كذلك الأشياء المتباينة ليست كالمتخامة. وأما نتيجة الحياة السادسة فهي علو الشأن وارتفاع المكانة، وبلوغ سبيل النجاة.
الحياة السابعة: وهي حياة الظن والتوهم وهو ما يغلب على الإنسان من ذكر وصيت وشهرة. وتحت مفهوم هذه الحياة جدَّ الإنسان في طلب البقاء، وهذا الطلب يختلف بين الناس، وكل يتوهم البقاء على قدر مزاجه وعقله وبديهته.
الحياة الثامنة: حياة العاقبة، ووقت حصولها بعد الموت، ويصفها أبو حيان بقوله: (لأنها الغرض الأقصى وإليها المنتهى) ونتيجتها: (السرور والبقاء السرمدي.. في مراد الأنس) وأما سماتها فهي: (الطمأنينة والروحانية عند ربوة ذات قرار ومعين)، وهذه الحياة لا يقدر على وصفها وذلك على حد قوله: (لا عبارة لنا عن كنهه، لأنه بلد لا عهد لنا به، ولا ألفة بيننا وبين شكله). ومن أجل هذه الحياة فإنه زهد بكل أصفر وأحمر وحلو وحامض لين وناعم. (وعن كل زبرج رائق، وفاخر فائق) وجملة زهده هو عن (كل ما أوثق القيد، وأوبق النفس، وأوقع الدين، وبالغ في اجتلاب الهلكة). كما فارق في سبيل الفوز بملكوتها قرناء السوء، ثم قال: (فهذا شرح أصناف الحياة الثمانية على ما جادت القريحة، وساعدت العبارة عليه) كما أنه أعرض عن حياتين اثنتين باقيتين: الأولى للملائكة، والثانية لله عز وجل وتقدس في علاه، وبين أنه لا يستطيع القول فيهما لأنها علم الرب جلَّ جلاله، وتقدست صفاته. وهما لا يلم النطق بحقيقتها، فجنب نفسه القول فيها فهو فيها كما قال: (ولا نتكلف ركوب البحر بلا سفينة صحيحة ولا آله حاضرة، ولا ملاّح ماهر).
كما ضمنها بكلمات من نوادر وإشارات فلاسفة الزمان وذلك في قوله ضمن متن الرسالة (... ونرجع إلى ما وعدنا من إضافة لمع من كلام فلاسفة اليونان وغيرهم.. فإن في ذلك معونة لما مضى وتنبيهاً على حقيقته، ونفياً للشبهة إن عرضت فيه).
ومن هؤلاء الفلاسفة أوميروس، وسقراط، وسويقلس، وأفلاطون، ودمقراطيس، وآخرون عداهم من اليونانيين، وكان أبوحيان يسوق ما يقتبس من كلام الفلاسفة، ويتبع بعضا منها بتعليقاته، ومن ذلك ما قاله سقراط: (افرح بما لم تنطق به من الخطأ أكثر من فرحك بما لم تسكت عنه من الصواب)، ثم يعلق عليه بقوله: (هذا كلام نفيس يحث على معرفة مواقع النطق والصمت، وهذه المعرفة نتاج للفكر الصحيح، آتية بالحق، جلوبة للرشد).
وكان للفلاسفة العرب قدر وافر من الحديث من حيث الاستشهاد ومناقشة الآراء، وممن تتطرق إليهم أبو حيان التوحيدي محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني، وعيسى بن زرعة، والصيمري، وابن الخمار البغدادي، وغيرهم. ومن خلال استعراض أقوال فلاسفة العرب، كان يطرح مسائل فلسفية ويعمل قلمه في تحريرها، وفي الرسالة استطراد عبر عنه أبو حيان بقوله: (قد بعدنا عما كنا فيه بهذا الاعتراض، والرأي الرجوع إليه، فالكلام إذا وجد مسرحاً لم يقف، والخاطر إذا أصاب سحاً لم يكف)، وعلى عادة التوحيدي في موسوعتيه الأدبية الاستشهاد بحكيم الشعر، وشارد القول كاستشهاده ببيتين شعريين للشاعر الجاهلي زهير بن جناب سيد بني كلب ورئيسهم في حروبهم، من قصيدة مطلعها:
أبنيّ إن أهلك فقد
أورثتكم مجداً بنيّه
وهذا البيتان الشعريان هما:
فالموت خير للفتى
فليهلكن وبه بقيّه
من أن يرى تهديه
ولدان المقامة بالعشية
وطاب واستطاب لأبي حيّان الحديث فصال وجال، ثم ختم الرسالة بقوله: (على أني -والله- ما كتبته إلا بعد جمود الخاطر، وفلول الحد، وعوز النشاط، فقد علت السن، ونهكت الكبرة، وانحنى الصلب، وذوي الفهم، وهرم الذهن، وغلب الوسواس، وأزف الرحيل، وبيد الله الفرج، وإليه المعراج والمعرج وعليه التوكيل).
وبعد:
فهذه الدراسة جاءت قاصرة على طرق وتناول الجانب النثري الأدبي عند التوحيدي، وتحتوي هذه الرسالة نغماً فلسفياً صوفياً على سنته في مقابساته فقد طرق أنواع الحيوات التي يحياها الإنسان وعدد أسرارها وملابساتها الدنيوية، والأخروية، وتدرج الإنسان فيها نحو الكمال العقلي وهي موحية بسعة ثقافته، وحدة ذكائه وجمال أسلوبه وعنفوان قلمه. وصلابة فكره فهو كما مرَّ بك أيها الطلعة من قول الأديب النابه ياقوت الحموي السالف: (أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء) ثم صار بهذا (إمام البلغاء وفرد الدنيا).