د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
قال ابن سيدة في معجم (المحكم والمحيط الأعظم، 1/ 538) «والزَّمَعُ والزَّماعُ: المضاء فِي الْأَمر، والعزم عَلَيْهِ. وأزْمَعَ الْأَمرَ، وَبِه، وَعَلِيهِ: مضى فِيهِ». والشيخ النحوي الدكتور سليمان بن عبدالعزيز العيوني مبدع هذه الرواية ذكر المعنى فجعل (ذا الزماع) في ص7 ضدّ المستسلم.
كنا في زيارة كريمة إلى بيت الشيخ -حفظه الله-، وكان من مكملات كرمه السابغ فوق أريحيته وما أكرم به ضيوفه أن عرض جملة من كتب في المنصرَف بعد الزيارة، فبادرت إلى اختيار جملة من الكتب كانت هذه الرواية منها.
عرفت الشيخ النحوي سليمان أستاذ نحو وصرف يعلّمهما في الجامعة وفي غيرها من معاهد الدرس، وساعيًا ما استطاع إلى نشرهما، فبسط القول حينًا واختصره حينًا، نظم العلم في بيوت وشرحها؛ ولكن أمر الرواية أدهشني؛ فقلّما تجد من النحويين من يبدع في فنون الأدب، ولست أعرف من اللغويين المحدثين من كتب الرواية سوى (علي أبو المكارم) رحمه الله.
تتناول الرواية حكاية (عبد الرحمن) الشخصية التي تدور حولها أحداث الرواية فتبين مراحل من حياته، وهو فتى أظهر على صغر سنه صلابة وعزيمة، وتحلى بصفات عظيمة، وسيرته تكاد تكون نمطًا متكررًا لرجال عرفهم مجتمعنا، وبخاصة رجال الأعمال الذين تسمع حكاياتهم منهم هم أنفسهم أو من غيرهم، تعجب لشدة ما عانوا، ولقوة بأسهم وصادق عزيمتهم. وهي بالجملة تصف الحياة الاجتماعية أو صورة منها بما فيها من سلوك الإنسان وطبائعه فتظهر التدافع وما يتصف به الناس من أثرة أو إيثار ومن حبّ أو كره، من غبطة أو حسد، من عون أو خذلان، من نصح أو كيد، ومن خير أو شرّ، وتبين الرواية أثر حسن تربية الأم ولدها، وعرفت في حياتي من فقد والده صغيرًا فعاش في كنف أمه فأحسنت تربيته فنشأ نشأة صالحة، وتبين الرواية أن الإنسان يستطيع بجده وصبره وصدقه واعتماده على نفسه أن يصل إلى ما يريد.
وتعتمد الرواية في بنيتها على الحوار في المقام الأول، فالحوار أكثر من السرد. ولست تجد تفصيلًا كافيًا عن أماكن الأحداث ولا تجد تفصيلًا عن الشخصيات وأشكالها إلا قليلًا نجده حين توفي (أبو فهد) فوجدنا الروائي يفصل في بيان هيأته الجسدية وكل ما عرفناه قبل أنه تاجر من كبار التجار وأنه لا يخلو من الحسد فقد كاد لعبد الرحمن غير مرّة.
هذه الرواية واضحة البنية لا تعقيد في سبك أحداثها، فهي تتابع بانسجام، وجعلها الراوي المبدع في أربعة فصول عبرت عن مراحل متنامية من حياة بطل الرواية، الفصل الأول: عبدالرحمن في دكان أبيه، ومضمون هذا الفصل عمل عبد الرحمن مع والده، وعبد الرحمن هو أكبر أبناء صاحب الدكان (أبو سالم) من امرأته الأولى التي طلقها حين اضطرته أم سالم إلى ذلك كما اضطرته إلى التكني باسم ابنها سالم، وعاش الصبي في صراع بين رغبته في التعلم عملًا برغبة والدته وحثها له، والانصياع لطمع والده أن يعمل في الدكان وفاقًا لرغبة أم سالم التي لا تريد لابن ضرتها المطلقة أن يتعلم ويتفوق على أبنائها، وحاول الصغير بمعاونة خاله أن يلتحق بالمدرسة غير أن والده هدده بأخذه من أمه، فانصاع لأمر أبيه، ووُفّق لتعلم بعض أمور التجارة، حتى إذا كادت له خالته أم سالم فأغرت زوجها أن ينحيه عن العمل في الدكان ويحل أبناءها محله في الصيف اضطر إلى كسب رزقه فاشتغل حمّالًا في السوق حتى فرّج الله عنه بأن صار صاحب دكان، وهذا موضوع الفصل الثاني: عبدالرحمن في دكانه، والدكان في الحق لوالدته أخذته من أخيها أحمد ببضاعته وبسيارة النقل التابعة له، وهو نصيبها من ورث أبيهما إلى البيت الذي هي فيه، وأتاح العمل في هذا الدكان لعبدالرحمن أن يعرف كبار التجار وأن يكتسب ودّهم بحسن خلقه ورجاحة عقله وجمال منطقه، وإن لم يسلم من حسد الحاسدين وكيدهم من مثل التاجر (أبو فهد)، الذي توفي وترك دكانه الواسع المطل على جانبين وهيأ الله لعبد الرحمن أن يشتريه بما اجتمع عنده من مال وبمساهمة التاجر (أبوعائشة)، فصار عبدالرحمن تاجرًا وهذا مضمون الفصل الثالث: عبدالرحمن التاجر، واستطاع بمشاركة (أبو عائشة) أن يفتح لمحله فروعًا في مدينته وفي غيرها. وأما الفصل الرابع وهو: عبدالرحمن الزوج والأب، فيتحدث عن زواجه بابنة شريكه بعد أن حرم من الزواج بابنة خاله التي فتن بها منذ صغره، ويتحدث الفصل عن بره بوالده وأخوته وأخواته، إذ حرص على توظيفهم وتزويجهم بكرم بالغ وسخاء، ولذا صدق عليه أن يكون (الأب) وهذا ما ظهر من عنوان الفصل في المتن وصدق عليه أن يكون (الأخ) بحق وهذا ما ظهر في الفهرس، فعنوان الفصل الرابع في الفهرس عبدالرحمن الزوج والأخ، وفي الغالب أن الخلاف سهو من الطابع، والحق أن عبدالرحمن ينطبق عليه وصف (الأب الأخ).
حرص الشيخ النحوي العيوني على أن يستحيي ألفاظ العربية القديمة وإن على استحياء، يظهر هذا في عنوان الرواية (صغير ذو زَماع)، و(رَجِيَّةٌ) ص347، وقال ابن دريد في (جمهرة اللغة، 2/ 1039) «وَمَا لي فِي فلَان رَجِيَّةٌ، أَي مَا أرجوه». (وطُلَعةٌ) ص358، هي من صيغ المبالغة، جاء في (معجم العين، 2/ 12) «وتقول: إنّ نفسك لَطُلَعَةٌ إلى هذا الأمر، أي: تَتطلّع إليه، أي: تنازع إليه». (والْتاثَتْ) ص369، قال الأزهري في (تهذيب اللغة، 3/ 52) «واعتاص عليّ هَذَا الأمرُ يعتاص فَهُوَ معتاصٌ إِذا الْتَاث عَلَيْهِ، فَلم يهتدِ لجِهَة الصَّوَاب فِيهِ». (الملَوان) في قوله «وأدبه الملوان»ص370، قال الجوهري في (الصحاح، 6/ 2497) «والـمَلَوانِ: الليل والنهار. يقال: لا أفعله ما اختلف الْمَلَوانِ، الواحد مَلًا مقصورٌ». (وغَرِيَتْ) في قوله «وغريت نفسه به» ص374، قال الرازي في (مختار الصحاح، ص: 226) «وَ(غَرِيَ) بِهِ مِنْ بَابِ صَدِيَ أَيْ أُولِعَ بِهِ، وَالِاسْمُ (الْغَرَاءُ) بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ». (واندَمقا) في قوله «واندمقا دون إذن» ص396، جاء في (معجم العين، 5/ 124) «والاندِماقُ: الانخراط، ويقال: اندَمَقَ عليهم بغتة ضربًا وشتمًا». (وهاضه) في قوله «وهاضه الكرى»ص399، قال الزمخشري في (أساس البلاغة، 2/ 385) «ومن المجاز: هاضه الكرى، وبه هَيْضَةُ الكرى: تكسيره وتفتيره». وبعض تصاريف الفعل مستعملة في اللغات المحكية في الجزيرة. (يتوكف) في قوله «وهو يتوكَّف خبرًا» ص411، قال الأزهري في (تهذيب اللغة، 10/ 214) «يقالُ: هُوَ يتَوَكَّفُ خَبَرًا يَرِدُ عَلَيْهِ أَي يتوقَّعهُ». (أجفلت) في قوله «أجفلت السنة الثانية والعشرون» ص418، قال الزبيدي في (تاج العروس، 28/ 213) «وَأَجْفَلَتْ أَي أسرعَتْ».
وربما استحيا بعض التراكيب التي ندرت في لغة المحدثين مثل الإتباع الصوتي، قال عن الهاتف ص412 «ما له صار شحيحًا نحيحًا، وكان صوته من قبل كثيرًا بَثِيرًا»، قال ابن سيدة في (المحكم والمحيط الأعظم، 2/ 538) «النَّحِيحُ: صَوت يردده الرجل فِي جَوْفه. وشحيحٌ نَحِيحٌ إتْباعٌ، كَأَنَّهُ إِذا سُئِلَ اعتل كَرَاهَة للعطاء فردد نَفَسه لذَلِك». وقال في (المخصص، 4/ 216) «وَيَقُولُونَ: كَثير بَثير، والبَثير: هُوَ الْكثير مَأْخُوذ من قَوْلهم ماءٌ بَثْر: أَي كثير فَقَالُوا بَثير لموضِع كَثير». ومن ذلك استعمال (من) للمجاوزة كما في قوله «واغتسل من لوعة الشَّجا» ص466، أي عنها. (انظر في دلالة (من) على المجاوزة: الجنى الداني للمرادي، ص311).
وهو يحرص على ضبط ما يحتاج إلى ضبط من الألفاظ كما في (يكنُس) ص12، فهي بالضم تعني ينظف، ولكنها بالكسر يعني دخل في مأوى، وفي (خرِبت) ص139، لأن العامة يفتحون الراء، و(مِخَدَّتان)، قال الصفدي في (تصحيح التصحيف وتحرير التحريف، ص: 470) «والعامة تقول مَخَدّة، بفتح الميم. وصوابه كسرها». و(غُصَّة) لأن بعض العامة تكسر العين، و(الخِطبة) في قوله «دعاك إلى خِطبتها» ص410؛ لتتميز عن الخُطبة، قال ابن دريد في (جمهرة اللغة، 1/ 291) «وخَطَبَ الرجل خَطابة فَهُوَ خَطيب بَيّن الخَطابة. وَاسم الْكَلَام: الْخُطْبَة. وخِطْبَةُ النِّسَاء بِالْكَسْرِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي التَّنْزِيل: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ) وَالله أعلم». وكسر فاء (هِزّة) في قوله «أهي هِزَّة انتصار» ص347؛ لأنها اسم هيأة ولو أراد المرة لفتح الفاء (هَزَّة)، وفي قوله «ولا يتوقَّف قِدْرُ صدره عن الغليان» ص407. ضبط قِدْرًا حتى لا تلتبس بِقَدْر أو قَدَر. وقد ذكّر (القِدْر) موافقة لاستعمال المعاصرين أما عند القدماء فالقِدْر مؤنثة. (وشَرِقَ) ص412، لأن العامة يفتحون الراء. (ينزِع) ص466، كسر الراء لأمرين أحدهما لينبه إلى أن الفعل جاء على بابه (ضرب) ولم ينقل إلى باب (فتح) وإن كانت لامه حرفًا حلقيًّا، والآخر ليميزه عن الفعل (نزِع ينزَع) على باب (طرِب)، جاء في (لسان العرب، 8/ 352) «والنَّزَعُ: انْحِسارُ مقدَّم شعَر الرأْسِ عَنْ جَانِبَيِ الجَبْهةِ، وموضِعُه النَّزَعةُ، وَقَدْ نَزِعَ يَنْزَعُ نَزَعًا».
وفي الرواية مواطن جمال في التراكيب والكلمات قد يتعذر أن أقف القارئ عليها. وإن يكن القارئ ملولًا مثلي فلن يمل متابعة قراءة هذه الرواية.